هل كان الحنيفيون جماعة دينية مستقلة قبل الإسلام؟

أحمد عثمان

TT

وصف القرآن الكريم إبراهيم عليه السلام بانه لم يكن واحدا من المشركين، ولا هو كان من بين اليهود أو النصارى الموحدين، وإنما كان حنيفاً، بل إن القرآن يتحدث عن الدين الاسلامي، باعتباره هو ذات ملة إبراهيم الحنيف. ورغم ما جاء في روايات المؤرخين المسلمين الأوائل من وجود جماعة من الحنيفيين في الجزيرة العربية قبل الإسلام، رفض الباحثون الغربيون قبول هذه الروايات، مصرين على اعتبار الحنيفية صفة لا جماعة.

فقد أنكر فرانسوا ديه بلويس، في بحث قدمه في مؤتمر الدراسات الأثرية العربية الذي عقد في لندن ما بين 20 و22 من يوليو (تموز) الماضي، أن يكون الحنيفيون جماعة دينية قبل الاسلام. وأصر الباحث البريطاني على أن الرواة المسلمين، هم الذين زعموا وجود طائفة الحنيفيين، لخطئهم في فهم دلالة كلمة «حنيف» التي وردت في القرآن. وبعدما استعرض فرانسوا الآيات القرآنية التي تحدثت عن الحنيفية، قدّم بعض الكلمات المشابهة التي وجدت في اللغات القديمة، والتي لها دلالات مختلفة. وأوضح الباحث أن كلمة «أحنف» في العربية تدل على شخص «أعرج» بينما تشير كلمة «حنبا» في اللغة السريانية على شخص وثني أو غير مسيحي. وفي العبرية كلمة «حانيف» تعني «منافق»، بينما يدل الفعل «حنف» على «التنجس». ثم استند الى كلمة «حنبا» السريانية التي استخدمت للدلالة على الأمم مقابل بني اسرائيل، ليستنتج أن هذا هو ذات المعنى المقصود في القرآن، أي أن تعبير «إبراهيم حنيفا» لا يعني ـ في رأيه ـ انه ينتمي إلى طائفة حنيفية، وإنما يعني أن «إبراهيم من الأمم» وليس من بني اسرائيل.

ملة إبراهيم وردت كلمة «حنيف» ـ وجمعها حنفاء ـ في القرآن للدلالة على الدين الحق أو عقيدة التوحيد، على النقيض من الشرك وعبادة الاصنام، وفي جميع الحالات الثماني التي وردت فيها كلمة «حنيف» في القرآن، كانت للدلالة على «ملة إبراهيم» عليه السلام، أي ديانته: «إن ابراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً ولم يك من المشركين». (النحل 120). و«ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين». (آل عمران 67). كما جاء على لسان إبراهيم: «إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين». (الانعام 79). بل إن القرآن الكريم يجعل الاسلام هو هذا الدين الحنيف نفسه، ويقول مخاطباً محمداً (صلى الله عليه وسلم): «قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين». (الانعام 161). وكذلك: «ثم أوحينا إليك ان اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين». (النحل 123).

وهكذا فإن دعوة رسول الإسلام ما هي إلا دعوة إلى اتباع دين إبراهيم الحنيف: «ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً». (النساء 125) ثم: «قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين». (آل عمران 95). كما وردت كلمة الجمع «حنفاء» في سورة الحج للدلالة على المسلمين أنفسهم، إذ يخاطب الله رسوله قائلاً: «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.. حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق». (الحج27 و31).

ابن أبي الصلت ودفع تصريح القرآن بأن الاسلام هو نفسه الدين الحنيف بالباحثين الى التساؤل، إذا كان الإسلام الذي أتى به محمد (صلى الله عليه وسلم) في بداية القرن السابع الميلادي هو ذات الدين الحنيف الذي آمن به ابراهيم قبل ذلك بحوالي 22 قرنا، فلا بد ان هذا الدين كان قائما طوال هذه المدة ولا بد أن يكون له أتباع يمكن التعرف عليهم.

وحاول الباحثون ـ خصوصاً في العصر الحديث ـ معرفة ما إذا كانت كلمة «حنيف» قد وردت في نصوص يرجع تاريخها إلى عصور ما قبل الإسلام، للدلالة على طائفة دينية. وبالفعل عثر على العديد من الأشعار الجاهلية القديمة التى ذكرت الجماعة الحنيفية، منها ما قاله الشاعر أمية بن أبي الصلت.

وأمية هذا شاعر عربي من قبيلة ثقيف كان يعيش في الطائف عند بداية الدعوة المحمدية، ومات قبل وفاة رسول الاسلام بعام واحد. وهناك عدد من قصائد هذا الشاعر الذي لم يعتنق الاسلام، ولا هو عاصر زمن اكتمال القرآن وتدوينه، تتحدث عن «دين الحنيفية» باعتباره «الدين الوحيد الذي سيدوم حتى يوم البعث». وهو يتحدث عن إله واحد، هو «سيد العباد»، وعن الملائكة ومملكة الرب وعن يوم الحساب والنار والجنة. ويتفق ما جاء في شعر أمية في كل هذه الأمور مع ما ورد بالقرآن في معظم التفاصيل. وهناك قصيدة أخرى تتحدث عن «العابد المتحنف» الذي يقيم الصلاة، كتبها «جيران العود»، وهو شاعر من نمير في «نجد» لم يعرف الإسلام، ومع هذا استخدم هذا الشاعر الفعل «تحنف» بمعنى أدى مناسك العبادة، كما جاء في «لسان العرب».

على الرغم من كل هذا استمر الباحثون الغربيون على إنكارهم لوجود ديانة حنيفية قبل الاسلام، مصرين على أن كلمة «حنيف» التي وردت في أشعار الجاهليين، إنما تشير إلى المسلمين أنفسهم وليس إلى طائفة أخرى سبقتهم، بل إن بعضهم ذهب إلى القول بأن كلمة «حنيف» في عصور ما قبل الإسلام، كانت تدل على المشركين لا على الموحدين. وهم يستدلون على هذا بأن الكلمة السريانية «حنبا» ـ والتي يقولون بأنها مقابلة للكلمة العربية «حنيف» ـ كانت تستخدم للدلالة على المشركين. كما يذهب عدد آخر من الباحثين الغربيين إلى ان طائفة الحنيفيين ظهرت في جنوب الجزيرة العربية، حيث كانت هناك طوائف يهودية ومسيحية كبيرة أثرت تعاليمها ـ في رأيهم ـ على اعتقادات بعض العرب.

إلا ان أدلة النصوص التي عثر عليها مكتوبة تعارض هذه الفكرة: حيث ان غالبية الكتابات القديمة التي ذكرت الحنيفية جاءت من شمال الجزيرة وليس من جنوبها. وعلى الرغم من أن جوليوس فلهاوزن ـ وهو باحث ألماني في العلوم التوراتية مات عام 1918 ـ وافق على ان كلمة «حنيف» تدل في الأصل على أفراد طائفة دينية خاصة، إلا انه ذهب إلى ان هذه الطائفة كانت من النساك المسيحيين. وهناك ما يدل على ان الحنيفيين كانوا يتوضأون ويصلون ويصومون ويمتنعون عن شرب الخمر، بينما كان معظم النساك المسيحيين يشربون الخمر، التي اعتبروها جزءاً من طقوسهم الدينية خاصة طقوس «العشاء الأخير».

المتطهرون أصر المستشرقون على إنكارهم لوجود جماعة الحنيفيين قبل ظهور الاسلام، مدعين ان الرواة المسلمين هم الذين اختلقوا هذه الجماعة من دون دليل يشير إلى وجودهم. إلا ان كشفاً أثرياً مهماً تم عند بداية القرن العشرين، بين وجود جماعة من الحنيفيين كانت تعيش منذ عصرابراهيم عليه السلام في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وأوضح أن كلمة «حنيفيين» تعني «متطهرين» عن طريق الوضوء.

ففي عام 1905 استطاع الأثري البريطاني فليندرز بيتري العثور على بقايا مهمة في معبد سرابيط الخادم بسيناء، الذي يقع على بعد خمسة عشر كيلومترا شمال غرب دير سانت كاترين وجبل موسى. كان المعبد مقاماً داخل كهف في أعلى الجبل، بنيت أمامه قاعة، وأمام مكان القداس (أو المذبح) عثر على كمية كبيرة من الرماد الذي تراكم نتيجة لحرق الأضاحي والقرابين. وكانت المباخر توضع فوق مذابح صغيرة. لكن أهم ما عثر عليه بيتري كان هو «الحنفية». و«الحنفية» كلمة كانت تطلق على أوعية المياه التي كان المسلمون منذ أول عهدهم، يستعملونها في الوضوء قبل الدخول إلى المسجد للصلاة. وفي الأزمنة القديمة كانت الحنفية عبارة عن أحواض تملأ بالماء وتوضع بالقرب من مدخل المسجد كي يستعملها المصلون في الوضوء. وتطورت الحنفية مع مرور الزمن فأصبحت على شكل وعاء له صنبور، وفي وقتنا الحديث يطلق اسم «حنفية» على الصنبور نفسه وأحياناً على المنطقة التي يحصل فيها الوضوء في المسجد.

وعثر الأثري البريطاني على ثلاثة أحواض متعاقبة في موضعها كان المتعبدون يستخدمونها للوضوء، واحد مستطيل وضع بجانب الباب الخارجي للمعبد، والثاني مستدير وضع في قاعة خاصة عند المدخل، والثالث مستطيل وضع في قاعة تالية بها أربعة أعمدة.

وكانت هذه الأحواض تستخدم لغسيل أجزاء مختلفة من جسم الانسان بينما هو في طريقه إلى داخل المعبد. وقد استرعى هذا المنظر انتباه بيتري الذي رأى فيه تشابها مع طقوس الوضوء عند المسلمين مما جعله يقول: «وهذا مثل ما يحدث في (الطقوس) الاسلامية الحديثة (حيث يكون) الحوض الكبير أو «الحنفية» في وسط القاعة الرئيسية. والوضوء الاسلامي جزء من الطقوس الدينية.. تصحبه الصلاة، وهذا يكون قسطا كبيرا من العبادة العادية، ولهذا فإن وجود الأحواض في قاعات معبد سيناء يسبق كلا من هذه الطقوس (الوضوء) عند كل من اليهود والمسلمين.

وترجع أهمية هذا الكشف الأثري في انه ـ ليس فقط أظهر ان الحنفية والوضوء كانا معروفين قبل اثنين وعشرين قرنا من ظهور الإسلام ـ ولكن كذلك لأن هذا الوقت كان هو زمن ابراهيم الخليل وأهل مدين الذين جاءوا من سلالته، وتبين الآن أنهم كانوا يعرفون هذه الطقوس ويمارسونها.

ومن يدقق البحث في أصل الحنيفيين سيجد علاقة كبيرة بين هذه الطائفة وأهل مدين، الذين كانوا في تلك الأزمنة يسكنون شمال المملكة العربية السعودية وجنوب شبه جزيرة سيناء. وتقول أقدم المصادر التاريخية والجغرافية التي ترجع إلى بداية العصر المسيحي، إن اسم «مدين» كان يطلق على مدينة تقع في شمال الجزيرة العربية شرق خليج العقبة، وقد ورد هذا في كتابات «يوسيفوس» المؤرخ اليهودي الذي عاش في القرن الميلادي الأول، وكذلك في كتب المؤرخين من اليونان والرومان.

كما جاء ذكر مدين في كتابات ابن اسحق الذي قال إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أرسل حملة إلى هناك بقيادة زيد بن حارثة. وذكر هذه المدينة أيضاً بعض الشعراء العرب الذين قالوا بأنها كانت موطناً للرهبان. وهذا أيضاً هو ما ذكره محمد بن الحنفية ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان قد زارها وهو في طريقه الى الشام، حيث كانت مدين تعتبر من المحطات التي يستريح فيها المسافرون، وكانت القوافل تقطع المسافة بين تبوك ومدين في ستة أيام.

ويبدو أن مدينة مدين هذه كانت هي كل ما تبقى من أرض مدين القديمة، فهناك من المصادر القديمة ما يدل على ان اسم مدين كان في البداية يدل على كل المنطقة الواقعة شرق خليج العقبة في شمال الحجاز. وتقع البقايا الأثرية التي تعرف باسم «مغاور شعيب» ـ التي تحتوي على عدد من المقابر القديمة التي أقيمت داخل الكهوف، على بعد حوالي 25 كم شرق ميناء «المقنا» على خليج العقبة. وقد عثر الاثريون السعوديون على بقايا مثل هذه الأحواض في بعض المناطق الأثرية القديمة بأرض مدين في شمال الجزيرة العربية، وجدت موضوعة بالقرب من أماكن العبادة.

=