«أمانة جدة» توقف عقود الاستثمار في الحدائق العامة وتعترف بفشل المستثمرين

مستثمروها يوظفون 90% من مساحتها لترويج خدمات متواضعة

إحدى الحدائق العامة غرب جدة.. وتظهر فيها المنطقة الترفيهية الوحيدة للأطفال التي صممت بشكل لا يوفر الحماية اللازمة لهم («الشرق الأوسط»)
TT

في الوقت الذي انتقد فيه سكان مدينة جدة احتكار المستثمرين أجزاء تصل إلى أكثر من 90 في المائة من الحدائق العامة مقابل تقديم خدمات متواضعة لا ترقى إلى الحد الأدنى من المستوى المطلوب؛ أكدت أمانة محافظة جدة لـ«الشرق الأوسط» توقفها عن منح عقود استثمارية للحدائق العامة، وبقاء استمرارية العقود التي أعطيت في السابق حال مطابقتها الشروط، وسحب العقود ممن أساء استخدام المساحة المستثمرة ومنعه من التعاقد مستقبلا.

من جهته، لفت الدكتور عبد العزيز النهاري، المتحدث الرسمي في أمانة جدة، إلى تخصيص موازنة خاصة من قبل الأمانة للحدائق العامة والعمل على تهيئتها وصيانتها ورعايتها؛ إيمانا منها بأن الحدائق التي يبلغ عددها في مدينة جدة 96 حديقة لا بد أن تكون متنفسا لمرتاديها.

وبين أن الموازنة السنوية التي تخصص للأمانة في كل عام تخصص من بينها موازنة خاصة لإنشاء حدائق عامة، والتي تظل مشاريع إنشائها مستمرة في كل عام، إلا أنه على الرغم من ذلك تعمل الأمانة على إقامة شراكة استراتيجية مع القطاع الخاص لتبني إنشاء الحدائق؛ من خلال إعطائه مواصفات معينة للعمل عليها.

ونفى النهاري أن تقوم الأمانة بإنشاء مقرات لعمد الأحياء وفق مساحة معينة مستقطعة من الحدائق العامة، إلا أن دورها تجاه ذلك يقتصر على اقتراح الموقع المخصص للعمدة، إلى جانب أنها عملت على تهيئة أماكن لمراكز الأحياء، والتي قد يكون من ضمنها أماكن معينة للعمد، وهذا يعتمد على تهيئة الحي أو المركز.

وعلى الرغم من التصاميم المتواضعة التي تنفذ بها الحدائق العامة، والموازنة المخصصة لها سنويا، وشراكة القطاع الخاص في تبني إنشائها؛ فإن النهاري يؤكد أن الحدائق التي نفذت في العام الماضي، والتي ستنفذ في العام الحالي؛ تحمل مواصفات خاصة، إضافة إلى أن الخدمات المتوافرة في الحدائق العامة في الدول الخليجية والأوروبية تعتمد على المساحة.

وعند سؤال «الشرق الأوسط» عن «حديقة الأمير ماجد» لماذا لم تنفذ على أحدث طراز كما هو موجود في الدول الأخرى، كونها تحتكم إلى خصائص كثيرة كالموقع الاستراتيجي، وكثرة المباني والسكان المجاورين لها؛ بين النهاري أن الحديقة ستخضع للتطوير، مؤكدا أن الأمانة تعمل حاليا على مخطط شامل لتحسينها وتطويرها.

وتعد «حديقة الأمير ماجد» من أكبر حدائق جدة العامة في المساحة مقارنة بالحدائق الأخرى، وأن هذه الحديقة مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، جزء مستثمر يشغل 70 في المائة من مساحة الحديقة، وجزء آخر بمساحة 20 في المائة يقوم باستثماره رجل أعمال آخر لم ينته من أعماله حتى الآن، والجزء المتبقي الذي تعد نسبته أقل من 10 في المائة من مساحة الحديقة؛ يحوي مشتل أمانة مدينة جدة، وبلدية المطار، ويعد هذا الجزء الصغير المتبقي المساحة الحرة الوحيدة المجانية لمرتادي الحديقة.

وعلمت «الشرق الأوسط» من مصدر عمل سابقا كمسؤول في أمانة محافظة جدة، فضل عدم ذكر اسمه؛ أن فكرة الاستثمار للحدائق العامة مرفوضة من قبل أمانة المحافظة، وقال: «منذ أن كنت مسؤولا في الأمانة وأنا رافض لفكرة استثمار الحدائق العامة، ليس لأنها فكرة خاطئة، لكن لأن طريقة الاستثمار خاطئة، فالمستثمرون في السعودية اعتمدوا على إقامة سور يحيط بالمنطقة الخاصة بهم، وإنشاء مقهى ومطعم، وهذا ما سبب فشل مفهوم استثمار الحدائق العامة من وجهة نظري في السعودية مقارنة بالدول الأخرى؛ فدول الخليج والدول الأوروبية يتنافس المستثمرون من خلال استثمارهم في الحدائق العامة على تقديم أفضل وأحدث الخدمات بأسعار رمزية، والتي تصل لحد إنشاء تلفريك وقطار يجوب الحديقة، إضافة للبحيرات الصغيرة، وألعاب الأطفال والخدمات الأخرى».

وبين أن المستثمر لا يمكنه الحصول على مساحة تشغل أكثر من 70 في المائة إلا من خلال موافقة إدارة الاستثمار في الأمانة، مبينا أن دور هذه اللجنة متابعة الجزء المستثمر من الحديقة، وفي حال ثبوت الضرر على المجتمع وعدم تقديم الخدمات بالشكل اللائق؛ تقوم هذه اللجنة بسحب العقد منه ومعاقبته وإعادة تأهيل المكان للمرتادين.

وأفصح المصدر عن أن العقود الاستثمارية يتم إعطاؤها وفقا لأعلى مبلغ مقدم، وليس وفقا لفكر وتصور الخدمات المقدمة وجودتها، ما تسبب في وجود كثير من الحدائق العامة التي وضعها لا يسر، مشيرا إلى وجود كثير من الأفكار التي قد تستغل وتكون جميلة؛ كإنشاء حديقة للفراشات، وأخرى للطيور، أو ملاعب لممارسة أنواع معينة من لعب الكرة، وتأجيرها بالساعة، وأفكار أخرى كثيرة تحمل الرقي والتطور، وتعزز من السياحة.

ويرى أن المشكلة الحقيقية داخل الحدائق العامة في مدينة جدة، أن الأمر أعطي لغير أهله، وسيطرة المستثمرين على مساحات كبيرة من الحدائق التي لم ترق خدماتها للحد الأدنى من المستوى المطلوب؛ من خلال الاستهتار بالنظافة ووسائل السلامة والخدمات المقدمة للمرتادين داخل الحدائق العامة.

وأشار إلى أن الحدائق العامة في الدول الخليجية الأخرى أصبح المستثمرون فيها يتنافسون في جلب أغرب الأفكار وأحدثها وأجملها، واستغلال كل متر مربع فيها؛ لتحقيق الهدف المطلوب، وهو جلب الزوار وتقديم أفضل الخدمات، والمتعة والترفيه، إلى جانب الربح الوفير الذي سيجلبه.

ولفت إلى أن الحل الجذري لتحسين وضع وخدمات الحدائق العامة، يكمن في تقييم وضع الحدائق المستثمرة، وتقسيم الوضع إلى فئات «جيد، سيئ، وسيئ جدا»، وسحب العقود من المستثمرين الذين قدموا خدمات سيئة جدا، والعمل على تحسين الخدمات الجدية والارتقاء بها، وإنذارها.

ويرى أنه من بين الحلول أيضا منع استثمار أي حديقة عامة إلا بعد موافقة إدارة الحدائق، والتي تكون مشروطة بأن هذا الاستثمار يعطي إضافة للحديقة، وليس مدخولا ماديا فقط دون النظر إلى مستوى الخدمة المقدمة.

منيرة السلمي، سيدة سعودية في العقد الرابع، تحدثت عن تجربتها مع الحديقة بالقول: «ذهبت في أحد الأيام إلى إحدى الحدائق العامة، والتي لا أعلم لماذا سميت عامة، وهي أكثر من 90 في المائة منها مستثمرة ومسورة، ومعي أبنائي بصحبة دراجاتهم، وعند دخولي من البوابة فوجئت بمنعي من الدخول بسبب الدراجات، وشاهدت أمامي داخل الحصن الذي أقيم عليه سور لأنه جزء خاص بالمستثمر، سيارات شحن تؤجر للأطفال، وسرعتها لا تفرق كثيرا عن سرعة الدراجات، وعند بحثي عن الخدمات التي تقدم داخل الحديقة لم أجد سوى مقهى بمساحة كبيرة، وكافيتريا، وملاهي خاصة، إضافة إلى أرض كبيرة جدا لم تستغل في أي شيء، غير مزروعة ولا يوجد بها كراسي للجلوس، ولا ألعاب للأطفال، عبارة عن خدمات رديئة مدفوعة الثمن».

من جهته، تساءل طلال الجهني، موظف في القطاع الخاص وأحد مرتادي الحديقة، بالقول «ما سبب تسليم الأمانة الحدائق العامة للمستثمرين؟ أليس من الأولى تخصيص جزء من الحدائق العامة للخدمات العامة التي تقدم للمجتمع».

وفي السياق ذاته، انتقد الدكتور سالم الحامد، الاستشاري الاجتماعي، الخدمات الاستثمارية المقدمة في الحدائق العامة، قائلا: «أثناء سفري إلى بعض من دول الخليج ذهبت إلى كثير من الحدائق العامة التي يستمتع فيها أبنائي أكثر من استمتاعهم بالملاهي في المراكز التجارية، فهذه الحدائق يوجد فيها مناطق للشواء، وخدمة رحلات التلفريك، وخدمات رحلات بحرية، وخدمة مصليات، ومسرح يقدم عروضا متنوعة للزوار، وخدمة المطاعم والمرافق العامة، وخدمات مناطق الأطفال، إلى جانب المسطحات الخضراء، والمضمار الرياضي، وغيرها الكثير من الخدمات».

وتساءل الحامد: «لماذا كل هذا الفرق في الخدمات المقدمة عندهم والخدمات التي تحتاج إلى خدمات عندنا؟ أعتقد أن توافر مثل هذه الأمور ومتابعتها وصيانتها بشكل جيد، سيخلق تغييرا إيجابيا جذريا في المجتمع، فنبذ الشباب من كل الأماكن؛ كالمراكز التجارية، وعدم توافر أندية شبابية اجتماعية وثقافية ورياضية؛ خلق نوعا من الانفصال بينهم وبين المجتمع حتى داخل الأسرة».

وأضاف: «أرى أن إيجاد حدائق عامة تحمل هذه الخدمات سيخلق نوعا من الدمج بين العائلة فيما بينها، من خلال الاستمتاع بالخدمات الترفيهية المقدمة لكل أفراد العائلة في مكان واحد».