أفلام كان

أصغر فرهادي: امرأة بين ماض ومستقبل

برنيس بيجو وطاهر رحيم وممثلان صغيران من فيلم «الماضي»
TT

The Past (4*)

* حتى الآن، فإن أغلب ما عرض من أفلام في مسابقة المهرجان الرئيسة له علاقة بحياة الأفراد في أسرة واحدة حيال مسألة تعني كل فرد منها على نحو مختلف. فيلم فرنسوا أوزون «شابة وجميلة» هو، كما كتبنا يوم أمس، دراما تتعلـق بطالبة تمتهن الدعارة ووقع ذلك على أفرادها، سواء شقيقها الصغير الذي كان يحفظ سرها أو والدتها التي تـصاب بصدمة حين تكتشف حقيقة ابنها وتحاول الوقوف على قدميها في ثبات بعد ذلك.

في فيلم أصغر فرهادي الجديد «الماضي» موضوع أكثر تشابكا وتعقيدا. هذا هو فيلم المخرج الإيراني الذي نال الأوسكار عن فيلمه «انفصال» في العام الماضي الأول في باريس، التي جاء إليها وعاش فيها بضعة أشهر متخوفا، حسب وصفه، من حقيقة أنه لا يتحدث اللغة الفرنسية ولا علاقة وثيقة له بالثقافة الفرنسية تخوله فهم السلوك البشري الذي يعتمد عليه في أعماله.

عجيب، إذن كيف استطاع، في نهاية المطاف، تحقيق فيلم يتعامل مع هذه الخصوصيات من دون ولوجها عمقا وتقديم فيلم، هو في صلبه عن سلوك البشر، فرنسيين أو عربا أو إيرانيين.

بطل الفيلم اسمه أحمد (الممثل الإيراني علي مصطفى) ويبدأ الفيلم به وقد حط في مطار باريسي قادما من إيران. المشهد الأول له وهو يسير في هذا الاتجاه ثم في ذاك بحثا عن حقيبة ضائعة، هذا قبل أن تنجح زوجته الفرنسي ماري (بارينيس بيجو بطلة فيلم «الفنان» الذي نال الأوسكار في العام الماضي) في لفت نظره إليها واقفة وبينهما جدار زجاجي. يحاول كل منهما الحديث للآخر عبر ذلك الجدار، لكن لا أحد بينهما يسمع الآخر. هذا المنوال يستمر حتى من بعد لقائهما إثر خروج أحمد من المطار وقيام ماري بنقله بسيارتها إلى منزلها، فهما يتحدثان لكن أحد لا يبدو قادرا على الإصغاء إلى الآخر والتأثر بما يريده منه.

كذلك، فإن هذه البداية تبقى في البال لأنها مغايرة. عادة ما يسمع الجمهور ما تصرخ به الشخصية في حين لا تسمعها الشخصية الأخرى، لكننا هذه المرة، ولجزء يسير، لا نسمع نحن أيضا أي شيء. بداية لافتة ينفذ منها المخرج إلى شرح التركيبة الشائكة (والمقبولة) للحكاية: أحمد وصل لكي يوقـع أوراق الطلاق. الطلاق ضروري بعد انفصال دام أربع سنوات وبسبب علاقة ماري مع شاب اسمه سمير (يقوم به طاهر رحيم، ونفهم أنه عربي الأصل) يملك مغسلة، بينما تعمل هي موظـفة في صيدلية. ماري وسمير ينويان الزواج، وهي حامل في شهرها الثاني، أمر لم يكن يعرفه أحمد، الذي يتوجـه وإياها للقاضي المختص، حيث يعلنان موافقتهما على الطلاق. هذه ليست نهاية القصـة.

أصغر فرهادي كان تحدث عن انفصال (ذي أسباب مختلفة) في فيلمه السابق، وكما وضعه تحت المجهر يضعه ومسائل اجتماعية أخرى تحت المجهر هنا. لا أحد مرتاحا في هذا الفيلم: لا ماري التي تجد نفسها في وضع بين رجلين؛ واحد في ماضيها والثاني في مستقبلها، (أما في الحاضر، فلا أحد منهما موجود حقا)، وأحمد الذي يجد نفسه متورطا مع مشكلة ماري وابنتيها، الكبرى غير السعيدة بالزواج المقبل بين أمها وسمير، والصغرى واسمها ليا (جين جستن) التي تتابع المشهد أمامها بحيرة. أما سمير الذي لديه ولد صعب التصرفات من زواج سابق، فيراجع نفسه بعدما اصطدمت كرة الثلج بقدميه: هل صحيح أن زوجته (أم ابنه) حاولت الانتحار عندما علمت بعلاقته بماري؟ ها هي تقبع في كوما منذ أشهر طويلة. وهي موجودة في الفيلم كما السقف بالنسبة للمنزل الذي يدور فيها الكثير من المشاهد الغاضبة بين ماري وأحمد، وبينها وبين سمير، وبينها وبين ابن سمير، وبين سمير وأحمد ثم بين ابنة ماري الكبرى لوسي (بولين بورليه).

الوضع من متأزم إلى منفجر والخناقات صادحة، ولو أن المشكلة الوحيدة هي في عدد من القرارات المؤجلة وقت كتابة السيناريو، التي تجعل الفيلم أطول قليلا مما كان باستطاعة المخرج تنفيذه. نجاح تجسيد هذا الوضع يعود إلى عاملين: إدارة متينة للشخصيات المكتوبة بدقـة والممثلة بوتيرة لا تسقط في الاستسهال مطلقا، وتوليف يخلق نبرة متوتـرة طوال الوقت، يرفع من حدة مواقف هي حادة. الفارق بينها تحت إدارة هذا المخرج وبين إدارتها بيد مخرج آخر، ربما هو أن فرهادي لا يترك أي لحظة تضيع من الفيلم. ليس لديه وقت يضيـعه ولا ابتسامة مجانية يوزعها. الحياة الناتجة عن وضع منسوف من أوله هي ما تسود، والأمل الوحيد هو في تلك اللقطة الأخيرة: سمير يسأل زوجته الغائبة عن وعيها أن تضغط على أصبعه إذا كانت تسمعه يعتذر لها. تنحدر الكاميرا من وجهيهما إلى حيث يد الزوجة وإبهام الزوج.. لقد التقطت الزوجة الإشارة وضغطت على أصبع زوجها بحزم.

لقد ترك فرهادي إيران لأجل تحقيق هذا الفيلم (والغالب أنه لن يكترث للعودة إليها)، لكن أسلوب عمله (كتابته، شخصياته، أحداثه والأزمات العائلية الناتجة عن أوضاع تتفاقم فيها الرغبات الفردية وتتعارض) ما زال إيرانيا. وهناك من بدأ يتململ في الصحافة الفرنسية (استنادا لمتابع) من أن المخرجين الأجانب الوافدين إلى العاصمة يحققون أفلامهم على نحو منافس للمخرجين الفرنسيين أنفسهم. أمر لا بأس به، ففرنسا كانت دوما ملاذا للفالتين بأحلامهم من أوضاع متأزمة هي الأخرى.