عم صلاح خزاف مصر القديمة.. حياته ماء وطين

متعته مكان ظليل والاستماع لصوت أم كلثوم

عم صلاح داخل ورشته («الشرق الأوسط»)
TT

بدلت الثورة التكنولوجية العالم من حوله.. وغيرت وجه التاريخ، وحين مرت بعم صلاح خزاف مصر القديمة واجهها بكامل هدوئه وزهده، وربت على كتفها واكتفى منها براديو ترانزستور صغير يضعه على رف خشبي صنع كيفما اتفق داخل غرفته المتهالكة في منطقة الفسطاط بمصر القديمة.

يبدو عم صلاح كشكل مزمن من أشكال الوجود في مصر.. رقيق الحال، عريق المحتد، فأصوله تعود إلى أحد آلهة مصر الفرعونية، الإله خنوم الذي تنسب إليه الأساطير المصرية صناعة البشر على دولاب الفخار.

ومنذ زمن الأساطير حيث يظهر الإله خنوم على معابد الفراعنة أمام دولابه، لم يجدّ جديد على حال أحفاده المنسيين إلى جانب النهر، فدولابه الخشبي على حاله، قاعدة خشبية دائرية الشكل موصولة بأخرى مماثلة من خلال عمود قائم. يدير عم صلاح بقدمه الدائرة الخشبية فتدور أمامه قطعة الطين.

وبخلاف نقوش الجدران التي صورت صانع الفخار، اكتشف أقدم نموذج لدولاب لصناعة الخشب يدويا في مصر القديمة من خلال تمثال صغير من الحجر الجيري يمثل خزافا أمام دولاب، وقد عثر عليه في حفائر منطقة سقارة وانتهى به المطاف في متحف شيكاغو بالولايات المتحدة الأميركية.

ماء وطين وحركة وخيال هي كل ما يلزم عم صلاح لتخرج قطعة الطين الموضوعة أمامه من وجودها الخام إلى الـ«شكل». جوهر عمله تشكيل الفراغ. يبلل أنامله بالماء ويمر بها على الطين كأنه يتنفس فيكون إناء، بسرعة ومهارة واعتياد فقد معه إحساسه بفرادة ما يقوم به.

قبل أن تصل قطعة الطين إلى دولاب عم صلاح تمر بعدة عمليات للتحضير، فالطين الذي يأتي من الجبل العالي بالمقطم ومن أسوان يضرب بعصا تسمى «القصار»، حتى يصير ترابا، وفي بركة دائرية يوضع حيث يتم خلط عدة أنواع من الطين.

في مصر الفرعونية كان المصري يعتمد على أنواع مختلفة من الطين، فهناك طمي النيل، وطينات من أرض قنا والبلاص والتبين، أما في الوقت الراهن فالطينات المستخدمة تأتي من أسوان وسيناء وقنا والمقطم.

بعد أن يتأكد عم صلاح من أن مساعديه قد قاموا بخلط الطين في البركة الدائرية جيدا، يسمح لهذا الخليط بالمرور من البركة الدائرية إلى ثلاث برك مستطيلة الشكل، وبعد إزالة الشوائب العالقة بالطين، الذي يوزع عبر فتحات الاتصال على البرك الثلاث الأخرى، يترك ليختمر ويتماسك.

يستقر مؤشر راديو عم صلاح طويلا على موجات إذاعة القرآن الكريم، ومن وقت لآخر يبحث عن صوت «الست» أم كلثوم. وبينما يعربد قيظ القاهرة في الخارج يحتمي عم صلاح بظل غرفته التي تبدو وكأنها تتسع بالغناء.

يقول عم صلاح: «الصبر جميل»، ليلخص حال البلاد التي لا تزال تتعثر في أزماتها السياسية والاقتصادية في أعقاب ثورة 25 يناير. يحمد الله على حاله لكنه لا يرتضيه ولا يرجوه للآخرين، ولا يفضل الحديث عن رزقه على بساطته.

تتميز مدرسة الفخار الشعبي المصرية بالتجريد والبساطة المحملة بالتعقيد، فهو أسلوب سهل ممتنع، يذكرك بجدران المقابر ذات الحفر الدقيق الذي يمثل قمة الانسيابية والتبسيط، وعظمة التقنية مع اكتمال المعرفة بفنون التشكيل، هذا ما تقوله دراسة للدكتورة إيمان مهران عضو هيئة تدريس بأكاديمية الفنون في مصر.

وتضيف مهران أن الفخار المصري هو فن تواصل طوال تاريخ حضارة وادي النيل ليحافظ على نمط ميزه، ليعيش مترسبا في الطرز المختلفة للمنتجات الفخارية الشعبية المصرية. وهو أمر يمكن فهمه في ضوء تقليد توريث الحرفة من جيل إلى جيل.

لكن تبقى حقيقة أن الوضع الراهن لصناعة الفخار الشعبي في مصر لا تعكس التاريخ العريق لأحد أقدم الحرف التقليدية في وادي النيل، ففي أزمنة مضت حينما لم يكن للفخار بدائل تذكر في الاستعمالات اليومية كان مطلب صفوة المجتمع بقدر ما هو مطلب للفقراء، وكان ذاك زمن مجده، لكن الطلب عليه بات اليوم محدود نسبيا.

حين ينتهي عم صلاح من تشكيل آنيته يضعها في الشمس لتجف على مهل، قبل أن تدخل إلى أفران خاصة توجد إلى جوار ورش صناعة الفخار في مصر القديمة، حيث يكتسب الطين صفات جديدة بعد حرقه.

بعدها يحتفي بمولوده الجديد وبابتسامة قنوع يوزعها بمحبة على طاولة الطعام المكونة من طبق من الفول بالزيت الحار، وبعض أقراص الطعمية الساخنة، وأعواد من الجرجير والخس الطازج، وقطعة من الجبن الأبيض.

يصر عم صلاح على أن أشاركه الطعام فأكتفي بلقيمات من الفول على سبيل المجاملة.. ومن لقمة لأخرى تتناثر كلماته الطيبة، وكأنها تختزل غبار الأيام وحكمة السنين.. يقول بعد أن فرغ من طعامه وتوجه بالشكر إلى ربه: «تعرف يا أستاذ، لو كل واحد احترم عمله وحَبه كانت بلدنا تبقى من أحسن وأجمل البلاد».