«على خطى ماركو بولو».. افتتحت المهرجانات الصيفية اللبنانية

ليلة للذواقة.. عشاق التجارب المغامرة في «بيت الدين»

حفل افتتاح المهرجانات الصيفية اللبنانية في بيت الدين أمس («الشرق الأوسط»)
TT

عرض للذواقة، وعشاق التجارب الفنية الرفيعة، بدأت به المهرجانات الصيفية في لبنان. على خطى الرحالة الإيطالي ماركو بولو، سار الجمهور، ليلة أول من أمس، متفرجا على تلاوين الشرق وفنونه في الليلة الافتتاحية لـ«مهرجانات بيت الدين» التي قررت هذه السنة أن تخوض مغامرة جريئة، تحسب لها، مدشنة الصيف بعرض مبتكر، وتوليفة ثرية بالمواهب والمهارات. ها هو ابن البندقية ماركو بولو الذي جاب طريق الحرير، يحط في قصر الإمبراطور المغولي قويلاي خان (حفيد جنكيز خان) ويروي له ما شهدته عيناه، رقصا، وغناء، وموسيقى عذبة.

نحن في باحة قصر الإمبراطور المغولي التي ازدانت خلفيتها بالأعمدة والقناطر الشرقية ودرج حجري قديم على يمينه فرقة فينسيا الموسيقية وعلى يساره فرقة موسيقية شرقية، يختلط فيها البيزنطي بالعربي والفارسي والهندي. وها هي العازفة الصينية البديعة لينغ لينغ يو، تجلس على كرسيها وسط المسرح، تطربنا بآلتها الوترية «البيبا»، الآتية من قرنين سبقا الميلاد. الراوية ماركو بولو يروي محطات رحلته بين الحين والآخر، تاركا للفنانين مهمة أخذنا في سفر تخيلي من بلد إلى آخر. من راجستان أربعة عازفين يفترشون الأرض، يدفعون المتفرجين للتصفيق سريعا وكأنما هذه الموسيقى الآتية من الحدود الهندية - الباكستانية مألوفة وحميمة. المنشد أنور خان يصدح «الله.. الله» في موال من نمط آخر، وعازف آلة جانبه يتمايل ويطرطق بـ«الصناجات»، محدثا إيقاعا مؤثرا. لا يكتمل التعرف على الهند من دون رقص فرقة «غير» التي تطل بخلاخيلها وقصبها وملابسها الحمراء الأنيقة ودوران راقصيها حول أنفسهم الأقرب إلى دوران الدراويش، في بحثهم عن الحقيقة، ورحلتهم إلى التسامي. بحليهم وتطاريزهم، وعلى وقع كلمات ماركو بولو الذي شملته مسحة شرقية قوية في ملابسه وصوته ونبرته، ذهب بنا راقصو الهند إلى وسط تلك القارة المسحورة لنتعرف على فن «الكاتاك» الذي يلبس فيه الرجال والنساء تنانير طويلة وواسعة تعطي لدورانهم معناه الدائري اللانهائي. دخول الراقص أنوش ليؤدي وصلته أعطى بعدا آخر. هذا الشرق فيه من صنوف الفن ما يخلب النظر.. ما بين الموسيقى المعزوفة بآلات وتلك الخارجة من بين الشفاه، كانت خلطة، ضرب على إيقاعها أنوش بقدميه وحرك بيديه ورأسه، وأرانا تقنيات في حركة الجسد لم نعهدها من قبل.

على الدرج الحجري الآتي من القصر تجلس أولزان بايبسينوفا، وهي تعزف على عودها المغولي الـ«دومبرا»، تغني للغة التي تصبح جامحة حين تكون الروح دافئة ومتحفزة والحنجرة حارة. ليس بعيدا عن هذه المغولية الساحرة يجلس مغولي آخر، يسمعنا غناء غريبا، يجعل الآذان تصغي، كما لو أنها تكتشف لغزا. «هذا صوت ضفادع».. تقول إحدى الحاضرات. «إنه صوت صراصير».. يقول آخر. كل يحاول أن يفهم ماهية هذا الغناء الذي يحاكي خلاله المغني أصوات الطبيعة من خرير الماء إلى عصف الريح وحفيف أوراق الشجر. ليس سهلا أن تفهم كل ما ترى في عرض، ارتأى أن يأتيك بثقافات بقدر ما هي متجاورة، لكن لكل منها خصوصيتها، وأسرارها ومنابعها. الرجل الذي يؤدي غناء من قاع الحنجرة، يمتد في الزمن إلى عصر جنكيز خان، لا بد يحمل إليك ما يستحق أن يصغى إليه بحفاوة.

عمد مخرج العمل الفرنسي آلان ويبير، إلى تقديم ثقافة كل بلد على حدة، وكأنما أراد للمتفرج أن يكتشف مدى الاختلاف والائتلاف بين هذه الثقافات، مع الحرص على تداخل مدروس لأوقات قصيرة ومحدودة. الفرقة الموسيقية الإيطالية مع الفرقة الشرقية تصاحبان الفنانين عزفا في بعض الأحيان، لكن تبقى الأولوية لترك الحاضرين يتعرفون على آلات لم يخبروها قبلا، وموسيقات لا عهد لهم بها.

طريق الحرير يمر من فارس، لذلك كان حضور المغني الإيراني محمد معتمدي، إحدى المحطات التي لا بد منها. وكذلك أرمينيا التي مثلها غناء إيمانويل هوفهانيسيان، برفقة اللبنانية عبير نعمة التي أبدعت وهي تغني الأرمينية.

الشرق طاغ لكنه ليس وحيدا على المسرح، فماركو بولو يمثل ذاك اللقاء العفي بين المشرق والمغرب، والفرقة الموسيقية الإيطالية عزفت لترقص على أنغامها راقصتان بملابسهما الأرستقراطية وفستانيهما الطويلين، لتذكرانا بأجواء قصور فينيسيا، بينما كانت الشاشتان الجانبيتان تترقرقان بمياه البحر إمعانا في إدخالنا أجواء البندقية المائية.

شاءت الظروف كما يقول الراوي رفيق علي أحمد، وهو يطل علينا من جديد، ألا يتحدث ماركو بولو في كتاب رحلاته عن دمشق، لكن التوليفة ما كانت لتكتمل لولا الفسحة العربية ورقص فرقة «سمة» السورية، سواء كان على رؤوس الأصابع، أو بالنمط العصري. لكن المفارقة الغريبة، أن العرض الذي استجلب أكثر الآلات تقليدية، وأكثر أنواع الغناء خصوصية لم يحرص على تقديم سوريا بتراثها وإنما بإطلالة ذات نفح عصري، بينما لبس الراقصون، ذكورهم وإناثهم، التنانير في تماه مع الراقصين الهنود، وفي تناغم معهم.

وكي تقفل دائرة الرحلة كانت العودة إلى بيت الدين ولبنان. أغنية لهذا المكان العابق بالتاريخ من عبير نعمة، المغنية ذات الحنجرة الماسية المطواعة. على عود المحترف الكبير شربل روحانا، وعلى موسيقى موزعة بعناية، ومكتوبة بحرفية، غنت نعمة مقاطع من أغنيات أندلسية ولبنانية، بينما صدح عود روحانا رخيما، سلسلا، بليغا.

الراوي ماركو بولو يعيدنا إلى جبران خليل جبران، ومقولاته التي لا تزال طازجة، وليغمز من قناة النواب اللبنانيين الذين لا يجتمعون إلا ليمددوا لنفسهم فترة بقائهم على كراسي السلطة.

بقي المتفرجون ينتظرون اللحظة التي يرون فيها فناني هذا العمل، بجنسياتهم وثقافاتهم، يقفون معا على المسرح حتى المشاهد الأخيرة. لكن هذا اللقاء مع جماليته العالية بقي قصيرا وشحيحا. اللبنانية عبير نعمة غنت مع الإيراني محمد معتمدي، وفرقة «سمة» السورية، امتزجت براقصي فينيسيا والهند، والأوركسترا الغربية تناغمت مع القانون والطبلة والدف والمزمار، والآلات الوترية القديمة الآتية من شرق آسيا.

ليلتان متتاليتان مع «على خطى ماركو بولو» لأولئك الذين يحبون المتع التي تأتيهم بهدوء، من دون صخب وعجلة متسرعة.

عرض تحتاج متابعته لإصغاء وصبر وغوص في الثقافات التي اختلطت، بعض الأحيان، على الحاضرين. لعل هذه التجربة كانت تحتاج شيئا من شد بعض أنحائها، إلى ربط بعض مفاصلها. الاعتماد على صبر المتفرجين لا يكفي، كل هذا الغنى الثقافي، وهذا التنوع في الأنماط الغنائية والموسيقية، كان بديعا بحق، وجديرا بالرؤية والتمعن. لكن ثمة من لا يملكون الشغف الكافي، أو الفضول المتوقد، ويحرقهم الانتظار، هؤلاء يحتاجون بعض الحيل الابتكارية، لجذبهم.. فبين النخبوية الرفيعة التي اختارها العرض والروح الشعبية التي أراد تجنبها، هناك منطقة وسطى لم يتمكن من بلوغها.