السعودية تواجه نقص المياه المحلاة باستثمارات مالية ومشاريع عملاقة

ضخ 200 مليار ريال حتى عام 2025 وبناء أكبر محطة للتحلية في العالم

إحدى محطات المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة («الشرق الأوسط»)
TT

أثناء زيارة نظمتها المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة لمجموعة من الإعلاميين إلى محطة رأس الخير أضخم مشروع لتحلية مياه البحر في العالم كان أحد مسؤولي المؤسسة يتحدث لفريق الصحافيين المرافق عن الجهود التي تخوضها المؤسسة لمواجهة الطلب على الماء.

كان يتحدث آنذاك عن العمل المتواصل دون توقف، وعن إنتاج الماء الذي يضخ في الأنابيب وهو ما زال يحتفظ بحرارة مراجل وغلايات المحطات - يضخ الماء وهو في درجة حرارة 38 درجة مئوية - مما يعني أن الماء المنتج من المحطات يستهلك في غضون ساعات فقط.

عندما طرح هذا السؤال: لماذا لا تستثمر المؤسسة في مشاريع التحلية الطاقة الشمسية أو السطوح السوداء (تقنية مبتكرة في تحلية المياه حصل أحد المبتكرين السعوديين على براءة اختراع فيها)؟، كان الرد بأن البلد بحاجة إلى توفير مياه بالتقنيات التقليدية ليحصل على كفايته من الماء، بعدها يمكن التفكر في الطرق والتقنيات البديلة.

هذه الإجابة تعبر عن حجم الطلب على المياه، فالسعودية تستهلك نحو 7 ملايين متر مكعب من المياه يوميا، 60 في المائة منها يأتي من المياه المحلاة. يقول الدكتور عبد الرحمن آل إبراهيم محافظ المؤسسة العامة لتحلية المياه في معظم لقاءاته الصحافية: «المؤسسة تجاوزت مسألة الحسابات الاقتصادية التي ينظر لها لتوفير المياه المحلاة».

وفي حين تعد السعودية إحدى أفقر دول العالم من الناحية المائية فإن نظامها المائي يعد من ناحية الأسعار الأقل على المستوى العالمي، حيث لا تتجاوز تعريفة المتر المربع من المياه 12 هللة، يدفع المستهلك 0.12 ريال كتعريفة للمتر المربع من المياه المحلاة، بينما تصل تكلفة الإنتاج من المحطات التي تنتج أقل من 20 ألف متر مكعب يوميا إلى 12 ريالا للمتر المكعب، وهو ما يكلف الخزينة العامة مبالغ هائلة في سبيل إنتاج المياه.

أمر آخر وهو تكلفة التقنيات، فإنتاج المياه باستخدام الوقود الأحفوري للمحطات الكبرى يكلف نحو دولار تقريبا (3.75 ريال) للمتر المكعب، بينما ترتفع التكلفة إلى نحو دولارين (7.5 ريال) للمتر المكعب بالطرق البديلة (الطاقة الشمسية).

يقول الدكتور آل إبراهيم إن المحطات في تعمل بأعلى قدراتها الإنتاجية، ووقت الذروة مستمر لا يتراجع الطلب على الماء إلا لفترات وجيزة، لذلك فكل وقت هو وقت ذروة بالنسبة للطلب على المياه.

لذلك لجأت المؤسسة العامة لتحلية المياه إلى تطوير تقنيات الإنتاج، حيث يؤكد المحافظ أن المؤسسة تتبنى في الفترة الراهنة مشاريع استراتيجية لرفع إنتاج المحطات بنسبة 50 في المائة بنفس كمية الوقود المستهلك، كما لدى المؤسسة خطة للاستثمار في إنتاج المياه بالطاقة الشمسية، وتهدف المؤسسة إلى تعزيز قدراتها وتحويل إنتاج المياه إلى صناعة تصدر السعودية تقنياتها.

في جانب الإنتاج تستحوذ السعودية على نحو 18 في المائة من الإنتاج العالمي من المياه المحلاة، وترتبط المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة بشراكات بحثية مع مؤسسات وجامعات محلية ومؤسسات بحثية عالمية، وفي جانب إنتاج المياه المحلاة باستخدام الطاقة الشمسية تعول المؤسسة على مشروعها الذي يجري على العمل على تنفيذه في مدينة الخفجي لإنتاج نحو 30 ألف متر مكعب من المياه يوميا بالطاقة النظيفة.

كذلك في الفترة الراهنة أعلنت المؤسسة عن شراكة ثلاثية تجمعها مع شركة «أرامكو السعودية» وشركة الكهرباء لدراسة واقتراح مشاريع نوعية سينتج عنها حزمة من المشاريع المهمة والتكاملية ذات الإنتاج المزدوج (ماء وكهرباء)، أول هذه المشاريع مشروع الجبيل 3 الذي سيكون الأكبر من نوعه في العالم خلال السنوات الثلاث المقبلة بطاقة إنتاجية تبلغ 1.5 مليون متر مكعب يوميا من المياه و3000 ميغاوات من الكهرباء.

الجدير ذكره أن أكبر محطة إنتاج مياه محلاة في العالم حاليا تمتلكها السعودية في مدينة رأس الخير التعدينية بطاقة إنتاجية تبلغ 1.025 مليون متر مكعب من المياه، و2400 ميغاوات من الكهرباء.

قصة العطش ليست قصة خيالية أو مزحة يمكن التساهل معها، بل مسألة وجود، فالسعودية تضخ 300 ألف برميل من النفط المكافئ لتشغيل محطات التحلية التي تعمل على الساحلين الغربي والشرقي للمملكة لتوفير 3.3 مليون متر مكعب من المياه من المحطات التي تديرها المؤسسة. هذا الجانب الآني، أما على المدى المتوسط فالسعودية بحاجة إلى استثمارات رأسمالية هائلة لإبقاء هذا القطاع في حالة القدرة على الوفاء بالتزاماته التي تنمو بشكل مذهل سنويا.

وقال تركي الحقيل المحلل الاقتصادي السعودي إن الطلب على المياه في السعودية ينمو بأكثر من 8.8 في المائة سنويا، وقد يرتفع إلى أكثر من الضعفين في العقدين القادمين، مما سيزيد من الضغوط على استهلاك النفط، ونمو هذا الاستهلاك بشكل يؤثر على بنية الاقتصاد السعودي.

في الجانب الآخر تعمل محطات التحلية بمعدل 24 ساعة لتوفير الاحتياجات المائية، لكن نسبة كبيرة من المياه المنتجة تأتي من محطات انتهى عمرها الافتراضي تقريبا، أي تجاوز عمرها 25 سنة، تقدر هذه النسبة بـ52 في المائة من المياه المحلاة، أي أن السعودية أمامها استحقاقات استثمارية ضخمة في هذا القطاع. هنا يقول الدكتور عبد الرحمن آل إبراهيم إن المؤسسة تعمل على خطة إحلال للمحطات التي شارفت على نهاية عمرها الافتراضي بأخرى جديدة وبتقنيات متطورة تنتج أكثر مما كانت تنتجه المحطات القديمة وبنفس كمية الوقود تقريبا وبمواصفات بيئية أفضل.

هنا يستدل آل إبراهيم بمحطة جدة التي أعادت المؤسسة بناءها في نفس المكان وبذات المساحة مع تطوير تقنيات الإنتاج ليرتفع إنتاج المحطة بنسبة تقدر بـ600 في المائة من 40 ألف متر مكعب إلى نحو 240 ألف متر مكعب في اليوم.

في هذا السياق تسعى المملكة إلى إشراك القطاع الخاص في معركتها مع العطش، حيث يشارك القطاع الخاص بنسبة لا بأس بها من إنتاج المياه، فالسعودية تحصل على 60 في المائة من احتياجاتها المائية للاستخدام المنزلي من تحلية مياه البحر، 40 في المائة منها تأتي من محطات التحلية التابعة للمؤسسة، بينما يأتي 20 في المائة من محطات يشغلها القطاع الخاص.

مفتاح السر في هذه المعركة هو التساؤل عن كم يستثمر من الأموال في هذا القطاع وما الخطط والرؤية المستقبلية له. فالسعودية تصرف نحو 135 مليار ريال كدعم سنوي لثلاثة قطاعات هي «الماء، والكهرباء، والبنزين»، في حين يقدر تركي الحقيل حاجة السعودية إلى استثمار بنحو 200 مليار ريال في مشروعات تحلية مياه البحر، حتى تواجه الزيادة في الطلب على المياه حتى منتصف العقد المقبل على أقل تقدير.

ويضيف: «قطاع المياه بحاجة إلى تحسينات ملحة وإصلاحات جوهرية حقيقة لا يرقى إليها شك، فقد تراجع نصيب الفرد السعودي من إجمالي مخزون المياه المتجددة بوتيرة متسارعة خلال العقدين الماضيين نتيجة لمعدلات النمو السكاني المرتفعة، والضغط المتزايد لقطاعي الصناعة والزراعة على مصادر المياه المحلية، إذ تستهلك الزراعة وحدها 84 في المائة من إجمالي استهلاك المملكة من المياه، طبقا للتقرير السنوي الأخير لمؤسسة النقد العربي السعودي، وهذه السياسة، تحديدا، هي التي استنفدت مصادر المياه الجوفية غير المتجددة في الثمانينات من القرن العشرين».

خلال العام الحالي وحتى منتصف العام المقبل لدى المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة خطة لرفع إنتاجها من المياه المحلاة بنحو مليوني متر مكعب يوميا، تضاف إلى الطاقة الإنتاجية الراهنة والبالغة نحو 3.3 ملايين متر مكعب يوميا.

تنتج السعودية حاليا أكثر من 1.2 مليار متر مكعب في العام من المياه المحلاة، بينما تخطط للوصول إلى 1.825 مليار متر مكعب من المياه المحلاة بنهاية عام 2015.

وحتى عام 2015 لدى السعودية استثمارات تقدر 86.5 مليار ريال في ثلاثة مشاريع كبرى ستكتمل بعد نحو عامين تقريبا تم تخصيص نحو 67.5 مليار ريال لبناء محطات ضخمة سيصاحبها مشاريع بنحو 18.75 مليار ريال، في حين يتوقع مسؤولو المؤسسة أن تنمو الاستثمارات في قطاع المياه بعد عام 2015 بشكل كبير لتوفير الأمن المائي، لأن خطة النمو في الاعتماد على المياه المحلاة ترسم حجم طلب يصل إلى 3 أضعاف حجم الطلب حاليا.

وتنتج المؤسسة العامة لتحلية المياه من نحو 36 محطة لتحلية مياه البحر تديرها على السواحل الشرقية والغربية للبلاد، ويقع معظمها على طول ساحل البحر الأحمر، وتشير الأرقام إلى أن حجم الاستهلاك بين عامي 1980 و2006 تضاعف ثلاث مرات في مياه الري بسبب المساعي التي دعمتها الحكومة لتطوير الزراعة في المناطق الصحراوية.

وبلغ استهلاك السعودية من مياه الري خلال تلك الفترة نحو واحد وعشرين كيلومترا مكعبا، طبقا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، وعلى الرغم من شح مصادرها من المياه المتجددة، سعت السعودية نفسها للتحول إلى مصدر للحليب والألبان، وسعت للاكتفاء الذاتي من القمح، وهو ما يعد عمليا تصديرا مكثفا للموارد المائية، وتوشك مصادر المياه الجوفية العميقة التي تمتلكها السعودية في الفترة الحالية على النضوب، إذ تشير بعض التقديرات إلى أنها لن تدوم لأكثر من خمس وعشرين سنة قادمة.

بالعودة إلى تركي الحقيل الذي يقول إن تعريفة الماء المنخفضة وبعض الحوافز المشوهة أدت إلى تشجيع الأفراد والشركات على الإفراط في استهلاك الموارد المائية، لذا - والكلام للحقيل - لا بد من تغيير هذا الواقع عبر الإسراع في اتخاذ الإجراءات اللازمة لترشيد الاستهلاك، كما أن التعريفة المنخفضة للماء التي تبلغ نحو 0.10 ريال سعودي للمتر المكعب فقط لا تدعم جهود الحفاظ على نظام إنتاج وتوزيع المياه، ويضيف: «يجب على المملكة أن ترفع مستوى هذه التعريفة بشكل كبير خلال السنوات المقبلة».

وتعتبر المملكة من أفقر دول العالم لناحية مصادر المياه الطبيعية المتجددة، فهي بلد صحراوي قليل الأمطار، ولا تتوفر فيه أنهار أو بحيرات، لذلك فالسعودية بحاجة ماسة إلى استثمارات ضخمة جدا في هذا القطاع لمواجهة النمو السنوي في الطلب على المياه الذي يعتبر من المعدلات الأعلى على المستوى العالمي، وكذلك النمو السنوي في عدد السكان الذي يتجاوز 2.5 في المائة.

اتخذت السعودية عدة خطوات، منها التحول عن زراعة القمح بوقف الدعم في عام 2016، كما دعت المستثمرين السعوديين في القطاع الزراعي إلى نقل استثماراتهم إلى الخارج حيث توفر لهم ضمن الشركات التي بدأتها مع عدد من الدول مناخات للاستثمار في القطاع الزراعي أقل كلفة مع وفرة للمصادر المائية.

بنهاية العام الحالي ستضيف المؤسسة إلى حصتها الإنتاجية من المياه المحلاة نحو 150 ألف متر مكعب يوميا، وذلك مع بدء التشغيل الجزئي لمحطة رأس الخير المشروع العملاق الذي بلغت تكاليفه نحو 23 مليار ريال.