التعليم في السعودية.. من 65 ألف طالب إلى خمسة ملايين خلال ستة عقود

بدء الدراسة يعيد ذكريات المدارس في العقود الماضية

يشرع اليوم ما يربو على خمسة ملايين طالب وطالبة في بدء الموسم الدراسي الجديد («الشرق الأوسط»)
TT

تعيد مناسبة بدء الدراسة في السعودية للعام الدراسي الجديد، الذي ينطلق اليوم (الأحد)، ذكريات يحملها الرعيل الأول ممن شهد البدايات الصعبة للتعليم في العقود الماضية، وما كانت عليه الدراسة في أيامهم، والمحطات الكثيرة التي مر بها التعليم، والتغيرات التي طالت القطاع قبل وبعد قيام الدولة السعودية الحديثة، والارتباط الشرطي بين الطالب والمدرسة والبيت، في ظل إمكانات بالغة الصعوبة.

وتبقى أجواء المدرسة، خصوصا مرحلة الابتدائية وأدوات المدرسة من سبورات وطباشير وممحاة ومناهج، والقرطاسيات المختلفة من دفاتر وكراسات، بالإضافة إلى نوعية المعلمين وجنسياتهم والأنشطة التي تمارس داخل المدارس والعقوبات التي تطال الطلاب المخالفين والمقصرين عن أداء مهامهم الدراسية، عالقة في الأذهان ولا يمكن نسيانها، وكأن من يحملها يستحضر هذه الصور والمشاهد التي بقيت في الذاكرة ولم تعبرها، ويردد مع الشاعر الكبير نزار قباني:

وأرجعيني إلى أسوارِ مدرستي وأرجعيني الحبرَ والطبشورَ والكتبا تلكَ الزواريبُ كم كنزٍ طمرتُ بها وكم تركتُ عليها ذكرياتِ صبا وكم رسمتُ على جدرانِها صورا وكم كسرتُ على أدراجها لُعبا لقد بقيت في الذاكرة من المدرسة القديمة المقاعد الخشبية ذات الأدراج التي يستوعب المقعد الواحد منها أربعة طلاب كحد أقصى، إضافة إلى الكراسي الحديدية ذات الألوان المتعددة، والمخصصة لجلوس المعلمين فقط داخل كل فصل، والكراسات والدفاتر ماركة «أبو عشرين» و«أبو أربعين» ورقة، وعلت وزينت أغلفتها الأمامية بصورة الملك سعود بلباس عسكري وهو يؤدي التحية، ومقابلها صورة الزعيم المصري جمال عبد الناصر، أما غلاف الدفتر الأخير فغطي بجدول الضرب الصغير والضرب الكبير، كما بقيت في الذاكرة علبة الهندسة التي تحوي داخلها مسطرة صغيرة وفرجارا وقلمه البرتقالي والمنقلة، إضافة إلى قلم الرصاص والبراية والممحاة وعلبة التلوين الزيتية ذات الرائحة الجاذبة التي تغري بعض الطلاب ممن عنده نقص في البروتين على قضمها، كما تتداعى عن المدرسة القديمة المطارة البلاستيكية التي تحتفظ بداخلها بماء بارد يجلبه الطالب من منزله ويعلقها على رقبته، وكانت خاصة بالموسرين، في حين يشرب أغلب الطلاب من برادة الماء الموضوعة بالقرب من دورات المياه، كما أن الحقيبة الجلدية ودفتر الرسم الهندسي ودفتر وجه ووجه، ودفتر رسم الخرائط الشفاف ما زالت في ذاكرة الطلاب في العقود الماضية، كما تحفظ الذاكرة صورة المقصف المدرسي الذي يقدم إفطارا مقابل بضعة قروش ولا يتعدى كوب حليب ساخن وفطيرة جبن دهنت بمربى الحبحب والمعروف آنذاك بـ«مربى الجح» المقبل من الصين، كما لا ينسى من التحق بالمدرسة الابتدائية قبل عدة عقود دورات المياه التي تستخدم الكرسي العربي وصنابير المياه والبرادات التي لا تتوافر عادة في أغلب المنازل الطينية.

ومع عودة نحو خمسة ملايين طالب وطالبة في السعودية بمختلف المراحل الدراسية إلى الركض مجددا في حلبة التعليم والجلوس على مقاعد الدراسة، مبتدئين عاما دراسيا جديدا وحاملين آمالا بتحقيق أهداف المدرسة التربوية والتعليمية، في وقت يضع فيه نحو مليوني طالب وطالبة أقدامهم على سلم التعليم في بداية مشوارهم مع المدرسة كطلاب مستجدين خاضعين لبرنامج تمهيدي لتهيئتهم للدخول في معمعة التعليم، وصعود أول درجة في سلمه الطويل، مع هذه العودة تعود ذكريات عن البدايات الصعبة والمحطات الكثيرة التي مر بها التعليم قبل وبعد قيام الدولة السعودية الحديثة منذ نظام «الكتاتيب» وصولا إلى نظام «التعلم الذاتي»، والأخير بدأ يأخذ على استحياء موقعا في اهتمامات مسيري التعليم وتطبيقه على سطح الواقع استفادة من ثورة المعلومات والأساليب الجديدة التي طالت كل شيء للحصول على المعلومة بأقل جهد.

وتؤكد المعلومات التاريخية التي رصدت سجل التعليم في السعودية وجود عقبات صاحبت افتتاح المدارس، سواء كانت للبنين أو البنات، علما بأن الأخيرة تأخر إقرارها عن الأولى عدة سنوات، في حين تؤكد هذه المعلومات وجود وعي متقدم لدى بعض الأسر بخصوص تعليم بناتهم قبل أولادهم الذكور، إذ يشير الأديب السعودي عبد الله عبد الجبار في كتابه المثير الذي تناول فيه واقع السعودية قبل عدة عقود وأثناء مرحلة التأسيس، إلى أن مجموع عدد الطلاب في السعودية عام 1954 بلغ «65 ألفا»، وهو رقم متواضع جدا إذا قيس بعدد السكان الذين قدر عددهم في ذلك الوقت بستة ملايين نسمة، لافتا في كتابه «التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية» إلى أن أحمد أبو بكر إبراهيم يرى وفقا لما جاء في كتاب «الأدب الحجازي في النهضة الحديثة» أن التعليم الأساسي الأولي والتعليم الابتدائي أديا رسالتيهما في المدن على الوجه الأكمل، حتى إنك لتجد الكثرة الغامرة من البنين والبنات في هذه المدن يجيدون القراءة والكتابة.

وعلى الرغم من المعوقات التي وضعت في سبيل هؤلاء الرجال، صمم قلة من الوطنيين المخلصين، على تعليم الفتيات بوجه أو بآخر في الداخل أو في الخارج، بل إن بعض الأسر آثرت أن تقيم بمصر لا لشيء إلا لتنال بناتها حظهن من التعليم في مدارسها.

ويتناول عبد الجبار جزءا من تاريخ منسي حول تعليم البنات قبل إنشاء جهاز رسمي خاص به، مسجلا طرفا من رحلة الكفاح التي قادها البعض في سبيل جعل تعليم البنات أمرا واقعا؛ يقول: «إن أول من أدخل ابنته مدرسة حكومية بطريقة غير رسمية طبعا هو إبراهيم نوري كبير مفتشي المعارف سابقا، فأتاح لها أن تدرس بالمدرسة الفيصلية التي كان مديرها الشيخ مصطفى يغمور، واقتدى به طاهر الدباغ، وبعد نحو أربعة أشهر حدثت ضجة فاضطر لإخراجهما».

ويتابع بالقول: «في عهد الدباغ أصدرت الأوامر بإغلاق مدارس وكتاتيب البنات، وطلب إلى مفتش المعارف أن يأخذ تعهدا على مديرات المدارس بأن يمتنعن عن التعليم، ولكن المفتش بعد أن أخذ عليهن التعهد المطلوب همس في آذانهن سرا بأن يمضين في الطريق».

ويشير عبد الجبار إلى طرف من الكفاح في سبيل تعليم البنات بالبلاد، لافتا إلى أنه جانب الكتاتيب المعروفة توجد مدارس للفتيات ذكر بعضها، وهي: في مكة مدرسة هزازية ومدرسة الفتاة بمحلة القرارة، وبها نحو 300 طالبة ومديرتها صالحة حسين، وروضة الأطفال التي يديرها عمر عبد الجبار، ويتعلم بها البنون والبنات، في حين توجد في جدة مدرسة البنات الفلاحية، وهي أول مدرسة أسسها الشيخ محمد صلاح جمجوم عام 1932، وبلغ عدد تلميذاتها 300 طالبة، والمدرسة التي أنشأتها مؤسسة الثقافة الجامعية ومديرها أسعد جمجوم، وبها ما لا يقل عن 400 تلميذة، والمدرسة النصيفية وهي مدرسة تديرها حرم الشيخ عمر نصيف مدير أوقاف جدة، وحديقة الأطفال وهي على نظام رياض الأطفال المعروف، وكانت مختلطة تجمع بين البنين والبنات، ومدرسة روضة الأطفال، وبها نحو 300 تلميذة وتعنى باللغات الأجنبية، ومدرسة الخوجة في المدينة المنورة.

وشهدت المنطقة الوسطى (نجد) حادثتين لافتتين وغير مألوفتين في المدارس السعودية، حيث سجلت قريتان قبل أكثر من أربعة عقود وجود طالبتين تدرسان في مرحلة الابتدائية جنبا إلى جنب مع الطلاب البنين، وهو أمر لا يمكن أن يحدث في الوقت الحاضر، حيث التحقت في بلدة الغطغط (80 كيلومترا غرب الرياض) طفلة بالمدرسة الابتدائية الخاصة بالبنين، في حين التحقت طفلة سعودية في مدرسة البنين في بلدة الرمحية (100 كيلومتر شرق الرياض).

وقبل خمسة عقود كانت المدارس تمثل عامل جذب للطلاب والطالبات، حيث الأجواء أفضل من المنازل التي كانت أغلبها تستخدم مباني طينية ولا تتوافر فيها دورات مياه كتلك الموجودة في المدارس، كما كانت الفصول أكثر سعة من غرف المنازل، بل إن المدارس تتوافر بها المقاصف المدرسية التي تقدم إفطارا صحيا، وكان جرى تشغيل هذه المقاصف ذاتيا من خلال مساهمات واشتراكات الطلبة وبعض المعلمين، وفي آخر العام توزع أرباح مجزية على المساهمين تصل إلى خمسة أضعاف حجم المساهمة، وكان معلمو مواد العلوم هم من يعدون الوجبات داخل هذه المقاصف التي لا تتعدى كأسا ساخنة من الحليب وفطيرة مغطاة بالجبن والمربى، والأخيرة يجري إعدادها من قبل الطلاب ضمن نشاط مادة العلوم.

إضافة إلى ذلك، كانت المدارس تعمل على أنشطة لا صفية، متمثلة في الإذاعة المدرسية وجمعيات الصحافة والخدمة الاجتماعية، حيث تبدأ الإذاعة منذ الصباح الباكر في بث برامجها بعد تكليف طلاب فصل من فصول المدرسة بالإشراف اليومي على الإذاعة، وتقديم برامج في غاية الجودة، تزامنا مع بدء الطابور الصباحي من خلال رفع العلم السعودي على سارية نصبت في أغلب المدارس، ثم تقديم الكشافة أو الأشبال النشيد الوطني وترديده بصوت جماعي من قبل طلاب المدرسة الذين انتظموا في صفوف طويلة: «تحيا المملكة العربية السعودية، يعيش جلالة الملك المعظم»، ثم يبدأ الطلاب في تقديم البرامج الإذاعية، بعدها، إجراء التمارين الصباحية، ليتوجه بعدها الطلاب إلى صفوفهم بشكل منتظم.

وشهدت المدارس قبل أربعة عقود أنشطة مسرحية لافتة، وحفلات موسيقية يحضرها الطلاب وأولياء أمورهم، برعاية مسؤول في وزارة التربية والتعليم، التي كانت تحمل اسم وزارة المعارف، وكان الأمر اللافت في المدارس في العقود الخمسة الماضية إجراء مسابقات ثقافية بين طلاب الصف السادس أو ما يسمى بشهادة إتمام الدراسة الابتدائية على مستوى المملكة، وكانت المدارس الفائزة يحصل طلابها على جوائز مادية مجزية بالإضافة إلى مجموعة من الكتب مثل: روايات «بين مدينتين» لتشارلز ديكنز، و«أحدب نوتردام» لفيكتور هوغو، و«ماجدولين»، التي ترجمها وصاغها مصطفى لطفي المنفلوطي، ودواوين شعرية أبرزها للرصافي وجبران خليل جبران.

وحضرت الشدة على الطلاب بقوة في المدارس خلال العقود الماضية، من خلال استخدام «الفلكة» في معاقبة المخالفين والمقصرين من الطلاب، كما أن عصا الخيزران كان لها حضورها في أغلب المدارس لاستخدامها في معاقبة الطلاب من قبل المعلمين، وكان التلقين والحفظ الببغائي الذي يعتمد على المعلم في إيصال المعلومة إلى الطالب هو السائد، كما كان استخدام السبورات الخشبية والطباشير الأبيض والملون أمرا لافتا في واقع المدارس في ذلك الزمن، وما زال إلى اليوم، على الرغم من محاولات وتجارب طبقت مؤخرا لتحقيق التعلم الذاتي.