دراما رائعة عن جو الذي ضحى بنفسه ولندساي لوهان تعود

هوليوود ومهرجانات السينما: لقاء مشروط

نيكولاس كايج وتاي شريدان في «جو»
TT

«لم يكن سهلا انتقاء الأفلام هذه السنة»، يقول ألبرتو باربيرا، مدير مهرجان فينسيا لهذا الناقد خلال حفل أقامته «جمعية هوليوود للمراسلين الأجانب» وحضره نجوم ومخرجون كما باربيرا ومساعدته. أضاف:

«كان علينا أن نختار بدقة لأنه على الرغم من الأفلام الكثيرة التي وصلتنا كان الجيد والمناسب لنا محدودا في نهاية الأمر».

وعند سؤاله عن الاختيارات الأميركية قال: «هي ما أقصده بكلامي هذا. لقد بحثنا كثيرا عما هو مناسب وأعتقد أننا توفقنا في اختيارانا على نحو عام. أعتقد أن أفلام المسابقة الأميركية هي من أفضل ما أنجزته هوليوود هذا العام».

باربيرا يستدرك أن هذا الحكم يستثني الجيد الذي عرض في أماكن أخرى، والجيّد الذي لم ينته إنجازه بعد.

هوليوود من ناحيتها لا تكترث كثيرا للمهرجانات. تحديدا: لا تكترث للاشتراك في المسابقات الرسمية. ترضى أن تفتتح دورة لمهرجان أو أن تختتمها. ترضى أن يحظى أحد إنتاجاتها الكبيرة بعرض خاص. لكن ما لها وما للمسابقات؟

موقفها هذا يستند إلى عاملين:

الأول أن نقاد السينما يتطلعون إلى أفلام خارج الصبغة الهوليوودية على أي حال وهذا ما يقود إلى العامل الثاني: إذا ما قامت هوليوود بدفع أحد أفلامها للمسابقة ولم ينل الجائزة تكون هوليوود، أو على الأقل الشركة المنتجة لهذا الفيلم، خسرت ماء الوجه وعرّضت فيلمها لخسارة تجارية.

هذه ليست حقيقة خفية بل معروفة كذلك حقيقة أن المهرجانات السينمائية بالنسبة للاستوديوهات الأميركية مفيدة فقط كمنصة دعائية. إن لم تعمل على هذا النحو فلا حاجة للاستوديوهات بها.

هنا ينبري السؤال: إذا ما كان ما سبق حقيقيا وفعليا، كيف إذن نفسر وجود أفلام أميركية في مسابقات دورات المهرجانات الكبرى الثلاث وهي (من مطلع السنة لآخرها) برلين وكان وفينسيا؟

الجواب بسيط: هي أفلام مستقلة غالبا تتبع النمط الأوروبي في تقسيم السينما إلى سينما مؤلف وسينما منفذ وتنتمي إلى الأولى. حتى تلك التي أحيانا ما تتسلل إلى مسابقات المهرجانات الكبرى تنتمي إلى فئة قليلة من الأفلام التي تنفّذها شركات تتعامل والاستوديوهات الكبرى محليّا. عالميا هي بحاجة إلى سوق، والجائزة تساعدها على التوزيع.

ولدينا فيلمان بارزان في هذا المجال. إنتاجان أميركيان من دون أن يكون هوليووديي الهوية أو الصنعة. كلاهما يتحدّث عن بيئة معينة، لكن أحدهما فقط ينجز المهمة الصعبة المنشودة وهي أن ينجز الحديث وجهة نظر وتفاعلا.

بيئات مختلفة المخرج ديفيد غوردون غرين يعرف ذلك تمام المعرفة. في مطلع هذه السنة، قدّم المخرج في مسابقة مهرجان برلين فيلما كوميديا جيّدا بعنوان Prince Avalanche. لم يخرج الفيلم بجائزة فانتقل إلى مهرجانات أخرى: مر بثلاثة مهرجانات أميركية وبمهرجان تشيكي وآخر سويدي وثالث فرنسي كما عرض بتحبيذ ملحوظ في مهرجان بوسنيا، لكن كل ذلك لم يؤد إلى توزيع عام. في الولايات المتحدة مرّ الفيلم عابرا في عروض محدودة. في هولندا وألمانيا ينطلق في سبتمبر (أيلول) وفي الشهر التالي في السويد وبريطانيا وبعدهما في فرنسا. وهذه كل العروض الدولية التي ستخصص له.

لم تمنع هذه النتيجة المخرج غرين من التحرك سريعا، وحتى قبل أن يتحقق من مصير فيلمه ذاك، القيام بتحقيق فيلم جديد عنوانه «جو» Joe. ومع أن المحتمل أن يشهد هذا الفيلم توزيعا أكثر حماسا من ذاك الذي حصده عمله السابق، إلا أنه ما زال فيلما مستقل الإنتاج ومصنوعا كمزيج ما بين رؤية المخرج الذاتية لما يطرحه ويصوّره، وبين طريقة سرده للحكاية التي تحافظ على سمات عناصرها الروائية التقليدية.

سيساعد الفيلم على أي حال حقيقة أن بطله هو نيكولاس كايج محاطا بمجموعة كبيرة من الوجوه الجديدة أو شبه الجديدة أبرزها فتى اسمه تاي شريدان يعرف كيف يلتقط اللحظة ويتفاعل معها. لكن الفيلم ليس مصنوعا لإسعاد الجمهور الواسع. يكفيه أن هواة الفن السابع سيجدون فيه ما يكفي من العناصر في هذا المجال: كتابة ملمة وإخراج ممتاز وتمثيل جيد من الجميع.

في «برينس أفالانش» تعاطى غرين مع رجلين يعملان في رسم علامات الطرق في مناطق جبلية عالية. مهنة لم تقدّمها السينما من قبل. استلهاما من المكان عالج غرين حكاية هي بدورها من نباتات تلك البيئة. قصة لا يمكن أن تقع بملامحها واختصاصاتها المعروضة فيما لو كانت البيئة مختلفة عن تلك التي في هذا الفيلم.

في فيلمه الجديد «جو» يتعامل مرّة أخرى مع مهنة لم نرها من قبل على الشاشة: جو (كايج) يدير مجموعة من العمال السود في عمل غريب: هناك في بعض المناطق الحرشية البعيدة يقوم هؤلاء بتسميم الشجر لكي يتسنى للشركة التي استأجرت هؤلاء العمال الحصول من الإدارة المعنية على أذونات بقطعها. طريقة ذلك أن يهوى العامل على الجذع ليفتح فيه خندقا ثم يتم رش المكان بمادة سامة. بعد ذلك ستموت الشجرة وستتمكن المؤسسة من الحصول على الأرض. على ذلك، هذا العمل وتلك المنطقة ليسا سوى سياج لما تدور الحكاية حوله. فتى (أبيض) في الخامسة عشرة من عمره اسمه غاري (شريدان) يتقدم من جو ويطلب عملا. يكتشف جو وضع الشاب المعيشي الصعب. فهو يعيش في الريف داخل بيت تنتشر فيه القمامة ويسكن فيه غاري مع شقيقته التي توقفت عن الكلام ووالده ذي النزعة القاسية والشريرة الذي لا يترك زجاجة الكحول بعيدا عن متناول يده (بل يقتل من أجلها كما نرى لاحقا).

جو، الذي لا يود أن يعود إلى سجن كان خرج منه قبل سنوات قليلة حين اعتدى بالضرب على رجل بوليس، يحاول أن يساعد غاري لكن الأمور تفلت من يده فالمسألة ليست بسيطة لأنها ترتبط بوضع اقتصادي ضاغط يدفع الجميع إلى السقوط في أخطاء وخطايا. والمسألة الواحدة تتعدد والأمر يجر وراءه أمرا آخر، وها هو شرير اسمه ويلي (روني بلفينز) يبحث عن غاري لينتقم منه لحادثة بينهما. جو (الذي كان ضرب ويلي قبل ذلك ما دفع هذا لمحاولة قتله) لا يستطيع أن يترك ويلي ينجح في مسعاه. من أجله سيتخلى عن مكاسب وهمية. عن مستوى من العيش ما زال قلقا وغير مستقر وعن حياة يعيشها أصلا بصعوبة. مرة أخرى، تلك البيئة تفرز ما هو أبعد من القصة وشخصياتها: تبرز عوامل اجتماعية صارخة لحياة أفراد يعانون شظف العيش. ليس أن شخصيات المخرج من المهمّشين، لأنه حتى تكون مهمّشا يجب أن تعيش لجانب الصلب الأساسي، لكن شخصياته بعيدة عن أي صلب. هي مثل تلك الأشجار الآيلة إلى السقوط يوما.

ما وراء التهميش الفيلم الأميركي الثاني الذي تم عرضه في اليوم الثالث من المهرجان هو «الوديان» لبول شرادر وجاء عرضه خارج المسابقة الأولى إذ سبق له أن شهد عرضا في مهرجان نيويورك في مطلع أغسطس (آب) وهذا ينتقل بنا إلى شخصيات من المدينة. ليست هامشية أو مهمّشة أو حتى ثانوية، بل ذات حضور معلوم تبعا لرواية وضعها برت إيستون إيليس. فالأحداث تدور في هوليوود والشخصيات تنتمي إلى عالم السينما.

إنه الفيلم الذي تقوم لندساي لوهان ببطولته لاعبة شخصية امرأة تعيش مع المنتج كرستيان (جيمس دين) الذي يهوى تصويرها في أوضاع عاطفية مخلة معه أو مع سواه. وهي كانت على علاقة غرامية مع الممثل الطموح رايان (نولان فانك) لكنها أدركت أنها لن تجني من العيش معه سوى العوز والفقر فانتقلت إلى أحضان المنتج الثري الذي لم يكن يعرف شيئا عن العلاقة السابقة حين وافق على منح رايان دورا في فيلمه المقبل. حين علم ذلك، وأدرك أن الحب اشتغل مجددا بين امرأته ورايان يحاول هدم سعادتهما قدر المستطاع ويقرر طرد رايان من الفيلم الذي سيدخل التصوير بعد شهر.

هناك تفاصيل كثيرة في رواق هذا العمل بعضها لا يؤدي إلى بعضها الآخر. إنها أشبه بأبواب صغيرة لا تؤدي بالضرورة إلى السياق ذاته بل تتدخل فيه. لكن هذا الأمر هو مشكلة صغيرة إزاء مشكلة الفيلم الأكبر. فـ«الوديان» إذ يمنح المشاهد معالجة لحياة من الخطايا تعيشها شخصيات الفيلم الهوليوودية لأجل رسم مجتمع لا يعمل للفن أو حبا للسينما، بل لمصلحته الأنانية الخاصّة وإشباعا لرغباته الحسية، يبقى باردا حيالها غير قادر على تكوين وجهة نظر متفاعلة ولا لتحويل الأحداث من مستوى المتابعة إلى التعمق الفعلي فيما يحاول الفيلم رسمه على صفحته الخاصّة. بعد قليل يدرك المشاهد أن المخرج الذي كتب «سائق التاكسي» وأخرج «هاردكور» و«بلو كولار» و«أميركان جيغولو» وكل منها بمواقف واضحة مما يدور فيها، يعالج الحكاية المعروضة من مسافة بعيدة تترك برودا. نعم هو لا يزال يتحدّث عن هوليوود الفاسدة لكنه يتحدّث فقط. يريد أن يدين هوليوود بفيلم يحتاج إلى هوليوود لدعمه، وهذا جيّد، لكنه يقدم على ذلك بأداة السرد وحده.

شرادر لا يحاول هنا فعل أكثر مما يستطيع ضمن ميزانية يُقال إنها لم تصل لحد نصف مليون دولار. معنى ذلك أن الممثلين لم يقبضوا سنتا واحدا بمن فيهم لندساي لوهان التي تعود إلى الشاشة بعد سنوات قضتها مع مشكلات إدمان وحياة عابثة. تعكس بالتأكيد في هذا الفيلم جوّا ليس غريبا عنها فهي جزء من عالم نما كنباتات الجدران القديمة. لكنها تمثل بقناعات معقولة. ليست واحدة من الممثلات اللواتي تنتظرهن، لكنها في هذا الفيلم تقوم بأكثر من مجرد العودة. إنها تمثل فعلا.

في حين ينتهي «جو» بموت بطله كترجمة لنهاية الخاسر، ينتهي «الوديان» كما لو أن الكهرباء انقطعت فجأة أو كما لو أن المخرج افتقد نهاية أفضل فترك بعضا من حكايته بلا نهاية.