«آكاسيا» يقدم للزائر اللبناني بيت الضيعة وحياة أهلها في بقعة طبيعية خلابة

من منزل إلى متنزه تراثي حلم استغرق تحقيقه عشر سنوات

منظر طبيعي داخل آكاسيا
TT

يتغنى صاحبه بتحويله، منذ أشهر، إلى محمية طبيعية لآلاف الطيور التي تحط رحالها لتشرب من بحيراته. إنه متنزه «آكاسيا» الواقع في بلدة مجدل سلم (جنوب لبنان)، والمميز بجلسات هادئة، للأفراد والعائلات يمكنهم الاستمتاع به على ارتفاع 700 متر عن سطح البحر. ميزة هذا المتنزه الذي تحول إلى محمية، أنه كان حديقة خاصة لمواطن عادي، وتطور ليصبح حديقة عامة، تعيد الزائر إلى الأيام الخوالي، وتدخله حقبات تاريخية قديمة لم يعشها. فهنا تستوقفك الحضارة الرومانية مع أعمدة بعلبك، وهنالك ترى الخيمة العربية التي توحي بأنك في البادية، وهنالك تعيش حياة المواطن الجنوبي الريفي والقروي.

في البداية، لم يكن هناك وجود للمتنزه، بل كان منزلا للبناني فرج ياسين (صاحب المتنزه) مع المساحات الواسعة من الأراضي التابعة له.

ويقول فرج في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقته في إحدى حدائق المتنزه: «كنت أهتم دائما بحديقة منزلي من زراعة الأشجار والورود وإنشاء بعض الجلسات للاستفادة الشخصية، لكني لاحظت أن ثمة إعجابا وإقبالا من قبل الناس على الحديقة لأخذ الصور التذكارية، فجاءتني الفكرة بإنشاء متنزه يحمل اسم شجرة (الآكاسيا)».

ويضيف: «(الآكاسيا) نوع من الأشجار المحببة إلى قلبي، من هنا أردتها أن تكون عنوانا لمتنزه يجمع بين أنحائه الكثير من الحضارات».

ومما لا شك فيه أن القديم يلعب دورا كبيرا في حياة الشعوب، التي تشهد حاليا تطورا هائلا وسريعا مع دخولها عصر التكنولوجيا والإنترنت.

واقع دفع ياسين إلى استحضار بعض ملامح الماضي ليتسنى لجيل اليوم التمعن فيها والتمتع باستخدامها، ومنها الحمار الذي يعد من أشهر وسائل نقل الأجداد، حيث تلاحظ ندى، (12 عاما)، ورانيا، (10 أعوام)، تتسابقان للصعود عليه، للسير في جولة داخل طرقات «آكاسيا» الحجرية المرصوفة بشكل هندسي متقن.

كل شيء على الطراز القديم، مصقل بحرفية القدماء، يعكس للزائر متانة عاداته وتقاليده ويشعره كأنه داخل معرض للمقتنيات القديمة قام ياسين بجمعها من كبار السن، حيث تستوقفك في أحد المطاعم البارودة القديمة والمهباج و«الشاعوبة» (التي كانت تستخدم لدرس حبات القمح والشعير والعدس في الحقل)، و«بابور» الكاز، وهاتف «الترانك».

ولا يكتمل المشوار من دون رؤية السماور (الذي ارتبط اسمه ارتباطا كبيرا بأهل بغداد، حيث لم يخل مقهى منها وكان هو أساس تقديم الشاي)، وماكينة الخياطة وألفية الزيت والخل وجرن الكبة، و«الجاروفة».

ويفتخر ياسين بأنه بإمكان الزائر شرب المياه من بئر على طريقة أجدادنا (يسحب الماء بواسطة الحبل ويوضع بالإبريق الفخار). «جميع المأكولات لدينا طبيعية 100%، لا سيما الألبان والأجبان، مصدرها الأبقار والأغنام والماعز، وكذلك فإن الخضار والفواكه من إنتاجنا»، يقول ياسين. يجذبك الصبار والعنب الخروب والتين، وتتدلى الكبكة في المطبخ، بينما يزين فرن «التنور» ساحة المطبخ وإلى جانبها الطابونة، وهي وسيلة من الوسائل التي كانت تعتمد في الأرياف والجبال اللبنانية لتحضير الخبز.

وفي مشهد يجسد الماضي في بعض وجوده، تستذكر منال، (50 عاما)، أثناء وقوفها بقرب جاروشة القمح: «كانت الصبايا تجتمع على سطح الدار لتساعد في طحن القمح، تتناوبن على تحريك الحجر، اليوم نضع الجاروشة تحفة». تغسل منال يديها من بئر المياه وتقول: «كنا نقصده لنملأ الجرار ونعود بها إلى الديار، غابت تلك الأيام».

على مساحة 70 ألف متر مربع يمتد متنزه «آكاسيا» الأخضر - المفعم بالتراث والتقاليد - والممتلئ ببساتين الدراق والتفاح والأجاص والعنب والزيتون والخروب والصبار.

داخل «آكاسيا» رحلة عمر دامت عشر سنوات، كانت كفيلة بتحقيق حلم ياسين وهو يبحث عن الأواني القديمة، ويجمعها ويعرضها في غرفة خاصة محصنة بأسلحة مرصوصة جنبا إلى جنب تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي.

وردا على سؤال يجيب: «لم أتعب يوما ولم أفقد الأمل باستعادة أيام زمان. وها أنا اليوم أحقق بعض حلمي ومعي المئات ممن يتوقون إلى التوغل داخل تلك الحياة، التي لا تشبه حياة اليوم بشيء».

يضم المتنزه الذي افتتح في 17 يوليو (تموز) 2009 صالة الأرز التي تتسع لـ250 شخصا وعددا من الشرفات والخيم ذات الجلسات المميزة، وكل شرفة وخيمة لها اسم خاص إما نسبة للشجرة المجاورة لها وإما نسبة لأحد الشخصيات التي توجب الاحترام وإما نسبة للديكور.

ويقدم المتنزه كافة أنواع المأكولات الشرقية والغربية، بالإضافة إلى القشدة والعسل، المميزة والخاصة بالمتنزه.

«العودة إلى التراث تحيي الروح» شعار ياسين الذي يردده باستمرار، مؤكدا أنه «ليس هناك أجمل من تجسيد بيت الضيعة وحياة أهلها في بقعة طبيعية، تعيدك إلى زقزقة العصافير على النافذة، وخرير مياه البحيرات، ونقيق بجع الحاجة أم علي».

ولا تحلو الجلسة دون رشفة قهوة عربية من مهباج العم أبو يوسف الذي يحمله ويدق البن، بينما تتربع ندى ورانيا وعدد من الأطفال بقربه تتأملن حركة عصا المهباج، في وقت تنتظر سها وربى، محمد وعلي القهوة العربية.

ويختم ياسين بأن حلمه لن يتوقف عند «آكاسيا»، بل هناك مشروع بناء فندق محيط بالقرية على الطراز القديم مع تلفريك يصل بين آكاسيا والفندق.

-