مهرجان حمامات كاراكالا الأثرية في روما بين غناء الأوبرا ورقص الباليه

رحلة فنية عبر التاريخ يختتمها نبوخذ نصر

جانب من احتفالات مهرجانات كاراكالا الأثرية في روما («الشرق الأوسط»)
TT

إيطاليا المهووسة بسباق السيارات الرياضية و«الفورمولا واحد» تشبه أهم قادة الأوركسترا لديها، والمنافسة بينهم وكأنهم يسوقون سيارات «الفيراري» في سباق محموم، فيبرز اسم ريكاردو موتي كأحد أهم هؤلاء القادة الذين يتركون بصماتهم أينما حلوا. منذ أن أصبح موتي المدير الفني الفخري لدار الأوبرا في روما مدى الحياة لمسنا تبدلا مهما في عالم الموسيقى الكلاسيكية في العاصمة الإيطالية، أما منافسه الكبير كلاوديو أبادو فقد سماه مؤخرا رئيس الجمهورية عضوا دائما في مجلس الشيوخ مدى الحياة.

من أهم إنجازات موتي هذا الصيف أنه أقنع محبي الموسيقى الكلاسيكية بأنه لا يوجد داع للسفر إلى مهرجان فيرونا بشمال إيطاليا أو الذهاب إلى مهرجان بيزارو على شاطئ البحر الأدرياتيكي للتمتع بروائع الفن الموسيقي والإنتاج ذي المستوى العالي. فتمكن محبو الفن هذا العام من البقاء في العاصمة الإيطالية رغم حر الصيف ومتابعة التحف الفنية في مهرجان الهواء الطلق الدولي في حمامات الإمبراطور الروماني كاراكالا المبنية قبل 1900 سنة، والتي أغلقت لعدة سنوات بسبب الحفاظ على البيئة. فقد اختارت دار الأوبرا في روما بإدارتها الجديدة برنامجا حافلا استمر ثلاثة شهور وتبادلت خلاله المسرحيات الغنائية بما فيها أوبرا توسكا لبوتشيني مع الباليه الرائع للراقص الإيطالي المبدع روبرتو بوليه وأصدقائه الأميركان من مسرح الباليه الأميركي بنيويورك وباليه رولان بيتي الفرنسية التي قدمت موسيقى كارمن وارليسيان لبيزيه، حيث تألقت الراقصة النجمة اليونورا ابانياتو، واختتم المهرجان هذه السنة بحفل خاص في مدينة سالزبورغ النمساوية عزفت خلاله مسرحية فيردي الغنائية «نابوكو» عن الملك الآشوري «نبوخذ نصر» بمناسبة الذكرى 200 لولادة فيردي أهم مؤلف موسيقي في إيطاليا، وقاد أوركسترا دار الأوبرا بروما ريكاردو موتي أحد كبار أعلام الموسيقى في هذا البلد وفي عرين أهم المهرجانات الموسيقية في النمسا والعالم.

شاهدنا خلال الموسم عشرة عروض بديعة في روما من أبرزها الأوبرا القديمة ذات الأسلوب الباروكي «ديدو وأينياس» للموسيقار البريطاني هنري بورسيل من إخراج ابنة ريكاردو موتي الموهوبة كيارا موتي. فعائلة موتي كلها من المولعين بالفن، ووالدتها النبيلة الراقية ماريا كريستينا ماتزافيلاني أخرجت فيلما سينمائيا ناجحا عام 2004 قامت ببطولته ابنتها كيارا التي تتقن التمثيل والإخراج السينمائي والمسرحي.

عرضت أوبرا ديدو لأول مرة عام 1688، وقصتها مستقاة من كتاب الشاعر الروماني فرجيل حول حكاية الحب والهجر لملكة قرطاج الشهيرة ديدون مع بطل طروادة اينياس. أظهرت كيارا موتي بحسها المرهف ماذا تريد نساء قرطاج، وبرعت في إمكانيات التلاعب بين الضوء والموسيقى، كما اختارت المغنين من الجيل الشاب فكان عرضا مسرحيا بامتياز في حمامات كاراكالا التي اتسعت لـ3500 متفرج. ويقدر عدد الجمهور والسياح الذين استمتعوا بمهرجان حمامات كاراكالا هذا العام بخمسين ألفا.

كثر لا يعرفون أن الإمبراطور الروماني كاراكالا كان من أصل سوري وفينيقي من شمال أفريقيا، ووالدته جوليا دومنا من حمص كان لها نفوذ كبير أيام عز الإمبراطورية الرومانية. كان كاراكالا قاسيا في حكمه وقتل أخاه لينفرد بالسلطة، ثم اغتاله أحد حراسه وهو يتبول في الطريق عام 217 وعمره 29 سنة قرب حران (في شمال سوريا على الحدود التركية الآن) حيث ولد في ما بعد عالم الكيمياء وأحد أعلام العرب العباقرة جابر بن حيان. بدأ بناء حمامات كاراكالا في عهد والد كاراكالا، وتم تشييدها كاملة عام 216 بعد الميلاد، حيث عمل فيها 5 آلاف عامل للحفر، و9 آلاف للبناء، وألفين للزخرفة والأعمدة فيها يزن كل منها مائة طن، وكانت مكانا للتسلية وممارسة الرياضة والاغتسال، وفيها مكتبة للكتب الإغريقية واللاتينية، واستمر استعمالها حتى القرن السادس الميلادي حين دمر أنابيب المياه فيها غزو القوط والبرابرة من شرق ألمانيا لروما.

في مهرجان سالزبورغ قدم موتي أوبرا نبوخذ نصر بشكل حفل موسيقي دون المناظر المسرحية، وأدهش جمهوره العالمي بطريقته المميزة في قيادة الأوركسترا المرافق للأوبرات الإيطالية وبراعته الفائقة في استخراج أجمل الأصوات من المغنين والمغنيات التي تتعب أصواتهم في ما بعد فيضطرون لطلب الراحة. فيردي كان من المعجبين بالتاريخ القديم للمنطقة العربية كما برهن في أوبرا «عايدة» المشهورة، أما في «نابوكو» (أي نبوخذ نصر) فنراه يروي باللحن العذب قصة اليهود الذين ساقهم الملك البابلي إلى مدينة بابل قبل بناء بغداد في العراق بعد أن دمر مملكة يهوذا في القدس وهدم معبد سليمان وأنهى حكم سلالة داود عام 587 قبل الميلاد.

ويذكر كتاب اليهود أن نبوخذ نصر رأى حلما مزعجا أثناء نومه ولم يتمكن أحد من المنجمين أو مفسري الأحلام من شرحه سوى النبي دانيال الذي سباه الملك البابلي من أورشليم، وقال له دانيال إن الحلم يعني وجود إله واحد في السماوات وهو الذي أعطاك الملك وهو الذي ينهي حياتك. نبوخذ نصر كان أشهر ملوك الدولة البابلية وقاد الجيوش بنفسه في معارك حاسمة في بلاد الشام، وقام ببناء بوابة عشتار التاريخية وحدائق مدينة بابل المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع، ومن أقواله المأثورة الحكيمة «الكبرياء الزائدة تدمر النفس».

سيختم ريكاردو موتي جولته العالمية لتخليد ذكرى ولادة مؤلفه الموسيقي المفضل فيردي الذي عاش 88 عاما بحفل موسيقي كبير في شيكاغو بالولايات المتحدة يوم عيد ميلاد فيردي في 10 أكتوبر (تشرين الأول)، سيبث عالميا بإرسال مباشر عبر التلفزيون، وسيقدم خلاله موسيقى قداس الموتى (ريكويم) التي ألفها فيردي وتعتبر من أهم أعماله رغم أنه لم يكن شديد التدين، وسيشارك في الغناء عدد من الفنانين المعروفين من بينهم مغني الباس الروسي الشاب من بشكورتوستان ايلدار أميروفيتش عبد الرزاقوف، والمغنية الإيطالية دانييلا بارشالونا، قبل أن يختتم موتي الاحتفالات بتقديم أوبرا فيردي الرائعة المبنية على مسرحية شكسبير «عطيل» القائد العسكري المغربي الذي يخنق لشدة غيرته زوجته البريئة ديدامونا في قبرص وأوبرا «ماكبث» الهائلة التي خلدها شكسبير وفيردي حول التأثير النفسي والسياسي المأساوي حين يسلك الحاكم مسلك الشر ليحقق طموحه للبقاء في السلطة.

لا عجب في نشاط وحيوية موتي المستمرة رغم أنه في الثانية والسبعين من العمر، فهو بالإضافة إلى منصبه في دار الأوبرا بروما وقبلها في ميلانو يقوم حاليا بدور قائد الأوركسترا لفرقة شيكاغو السيمفونية منذ ثلاث سنوات، وتأتيه دفعة من الطاقة والمقدرة لمجرد تفكيره في أنه يسهم في إحياء ذكرى فنانه المرموق الذي أسهم في وحدة إيطاليا وكان اسمه رمزا سريا لبناة الوحدة وهتافا للثوار ويعني بحروفه باللغة الإيطالية: فيتوريو إيمانويل ملك إيطاليا.