أحمد أبو الغيط يقدم شهادته من قلب الأحداث

40 سنة على مرور حرب أكتوبر

أحمد أبو الغيط
TT

يصدر قريبا لأحمد أبو الغيط كتابه الثاني «شاهد على الحرب والسلام» عن دار «نهضة مصر» ليتواكب توقيت ظهور الكتاب للقراء مع مناسبة مرور 40 عاما على اندلاع حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73.

والكاتب، كما هو معروف، دبلوماسيA مرموق كان مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة، ثم وزيرا للخارجية لمدة سبعة أعوام، وقد عرفناه كاتبا مدققا من خلال كتابه السابق «شهادتي: السياسة الخارجية المصرية 2004 - 2011» الذي سجل فيه حركة ومناخ ونجاح ومصاعب الدبلوماسية المصرية في سبع سنوات، ومدى ترابطها بالسياسات العربية والإقليمية والدولية. وها نحن مع كتابه الثاني عن حرب أكتوبر - رمضان 1973، ذلك الصراع العسكري العنيف شرق وغرب قناة السويس، الذي شارك فيه بطرق مباشرة وغير مباشرة كل أشقاء مصر والعرب، وتأثر بنتائجه الإقليم، وبلغت نتائجه المجتمع الدولي.

ولعل أول ما يطرأ على الذهن من تساؤلات هو توقيت إصدار هذا السجل الرائع لجزء مفصلي في تاريخ الأمة العربية وذاكرتها. وهل يكفي مرور أربعة عقود على اندلاع حرب أكتوبر أن نعيد الحديث عنها حتى لو قدمنا وثائق وكشفنا عن أسرار لأول مرة؟

تدفقت مياه غزيرة تحت كل الجسور في مصر والعالم العربي خلال الأشهر الثلاثين الماضية - وربما جعلت من أحداث أربعة عقود مضت تبدو وكأنها أربعة قرون أو أكثر! كيف نطالع أحداث تاريخ معاصر ونحن مشدوهون بما يجري يوميا من أحداث؟ وهل سيهتم جيل قادم يواجه تحديات حياتية جديدة بما جرى بالأمس حتى لو كان بالأمس القريب؟

إن ذاكرة الأمم يجب أن تتضمن أهم أحداثها، وقد تم تسجيلها بواسطة أبنائها وليس الأجانب فقط، ويزداد الأمر في خصوصيته عندما يكون تسجيل الوقائع والمناقشات ومتابعة صراع الحرب والسياسة قد تم بواسطة من حضر، وشاهد، وسمع، واطلع، وقام بالتسجيل في حينه قبل أن تسقط من ذاكرته تداعيات المواقف ومجريات الأحداث. ثم إن شاغلنا بحياة الأمة العربية ومستقبلها وما يجري اليوم من أحداث جسام لها تأثيرها البالغ على أجيالها الحالية والقادمة، أراه لا ينفصل كثيرا عما جرى قبل أربعة عقود، بل هو خط بياني تتنوع حوافه ولكنه يسير في النهاية في نفس الاتجاه.

كانت حرب 73 اتفاقا مصريا - سوريا لتحرير الممكن من سيناء والجولان واستعادة هيبة العرب وقدرتهم على القتال، وبالتالي الدخول في عملية سياسية تشمل مستقبل فلسطين. وما زالت أغلب هذه الأهداف صالحة حتى اليوم، والأوضاع في سوريا والمناطق المحتلة ومستقبل الدولة الفلسطينية وتزاحم حركات الجهاد التكفيري على سيناء تكاد تذكرنا باتجاه الخط البياني، وتبرر العودة لأحداث ماض قريب يعيد إفراز عناصره وتحديات يتحتم مواجهتها إذا ما أصرت هذه الأمة على البقاء، تراجع ما جرى بعقل هادئ ما تم وما لم يتم إنجازه لنتعلم من دروس التجربة ولا نكرر الأخطاء.

صفحات الكتاب تعالج بالوثائق ذلك التداخل والتوالي في استخدام السياسة، فالحرب، فالسياسة مرة أخرى في صراع الأمم في منطقة الشرق الأوسط، ويذهب بنا في عجالة لصورة المشهد في الخمسة أعوام السابقة على الحرب، وقد كانت في أغلبها واقعة تحت تأثير هزيمة عسكرية قاسية عام 1967 وحرب الاستنزاف وحرب المخابرات ضد الموساد الإسرائيلي. ثم يأخذنا الكتاب مباشرة إلى السادس من أكتوبر 73، حيث أتيح لأحمد أبو الغيط أن يكون في قلب الأحداث يعمل مع السيد حافظ إسماعيل مستشار الرئيس للأمن القومي، ويزامل صديقه السيد أحمد ماهر السيد الذي سبقه إلى منصب وزير الخارجية. ومن موقعه اطلع الكاتب على المحاضر اليومية للقاءات رئيس الجمهورية واتصالاته بالأطراف المعنية بالداخل والخارج، وشارك في اجتماعات مصرية ضمت عسكريين لمتابعة مسرح العمليات على مدار الساعة.

ولما كان أحمد أبو الغيط قد اطلع في مسيرة حياته على أكبر عدد من مراجع التاريخ، وخاصة الحروب عبر القرون وحتى الحربين العالميتين، ثم فيتنام، فقد سمح له وعيه بالتاريخ ودروسه أن يناقش من هم أكبر منه سنا وأعلى درجة في وقت لم يكن قد تجاوز بكثير العقد الثالث من عمره.

وبرشاقة سلسة يأخذنا الكتاب إلى أحداث العمليات العسكرية وينقلنا من آراء «كلاوز فتز» أحد أهم المعنيين بالاستراتيجية والحرب، إلى أساليب كيسنجر وزير خارجية أميركا وقت الحرب، في التفاوض، فتجد نفسك وكأنك تعيش هذه الأيام وتتابع الإدارة السياسية والدبلوماسية والعسكرية لهذه الحرب والدورين الأميركي والروسي وأدوار الدول العربية.

لقد كان العبور المصري لقناة السويس واحتلال شريط واسع شرق القناة، وقيام الطيران والدفاع الجوي بتحييد العدو، وبما أتاح للجيوش المصرية تجاوز التحصينات الإسرائيلية شرق القناة - عملا عسكريا رائعا بكل المقاييس الدولية يعرض لنا الكاتب تفاصيله، كما يعرض لأسرار وتوقيتات وظروف الرسائل المتبادلة خلال الحرب بين حافظ إسماعيل وكيسنجر، وهي اتصالات أسيء تفسيرها في كتب صدرت بالعربية عمن يفترض أنهم عالمون ببواطن الأمور ولهم قدرة على التحليل الدقيق.

هنا يتم وضع النقاط فوق وتحت الحروف، وبهذا يتصدى الكتاب من واقع السجلات الموثقة لإدارة الحرب والسياسة، موضحا أن غرور القوة أو الإحساس بالقدرة على التحليل قد يذهب بالبعض إلى إعادة كتابة التاريخ أو تغيير حقائقه وتجاهل واقعه.

ظني أن ما كتب بالعربية عن هذه الفترة لا يكتمل دون هذا الكتاب الذي يتابع أحداث الثغرة الإسرائيلية في غرب القناة وحصار مدينة السويس وأسرارها والتوازنات الإقليمية والدولية، وأهمها ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ستتابع يوميات الحرب ساعة بساعة، سواء مواقع القوات في الميدان أو التحركات السياسية المرافقة لها، إلى أن صمتت المدافع وبدأ العمل السياسي والدبلوماسي وقد تحررت مصر من مأساة هزيمة 1967.

والجزء الثاني من الكتاب يتناول الصراع السياسي بعد أن صمتت المدافع ويأخذنا في جولة ممتدة من زيارة السادات للقدس إلى مؤتمر مينا هاوس وقمة الإسماعيلية واللجنة السياسية والإخفاق بسبب الصلف الإسرائيلي، ثم كامب ديفيد الأولى واجتماع قلعة ليدز بالمملكة المتحدة، فقمة كامب ديفيد الشهيرة وما تلاها من أحداث ذات صلة قبل مؤتمر مدريد، التي أعقبت غزو العراق للكويت.. إلخ.

وهنا تجدر الإشارة لأمرين، أولهما: الشفافية فلم يعد مقبولا في هذا العصر أن تظل الاجتماعات والاتفاقات التي قد تؤثر على حياة الأمم ومستقبل أجيالها محصورة في ذاكرة القادة السياسيين والعسكريين، وربما يطلع عليها وبعد فترة وبشروط بعض الأكاديميين.. ذلك أمر لا يحدث في العالم المتقدم ولا ينبغي أن يحدث للعالم العربي. وثانيهما: ذلك الحوار الممتع بين أحمد أبو الغيط وكيسنجر بعد ثلاثة عقود من حرب أكتوبر، وقد تم على مرحلتين في لقاءين منفصلين. في الأول لمح أبو الغيط أن كيسنجر قد ساهم في قرار مصر بشن الحرب، وأن القيادة المصرية قد خلصت لذلك من خلال مباحثاته مع كبار المسؤولين المصريين عندما أدركت أنه لا أمل في التوصل إلى تسوية من دونها إذا كان على مصر أن تقبل بنتائج هزيمة 67 كمقدمة طبيعية يبنى عليها التفاوض.

وفى اللقاء الثاني كان كيسنجر يشعر بضيق شديد من ملاحظة أحمد أبو الغيط وأكد أنه ليس له أي دور في إشعال هذه الحرب «علينا أن نتذكر أنه يهودي الأصل» وأنه على غير استعداد لأن يتحمل أمام إسرائيل ويهود العالم مسؤولية قتلى وجرحى إسرائيل في هذا القتال.

ومن الجدير بالنظر في القسم السياسي التفاوضي من الكتاب الدور الأميركي الذي تمكن من تهميش الدور السوفياتي وضبط إيقاع التفاوض المصري - الإسرائيلي وفقا لتوقيتات ومصالح أميركية، وحقق بذلك هدفا استراتيجيا وهو التواجد لعدة عقود في هذه المنطقة دون تحد يذكر.

وأخيرا وكما سيحدث مع جيل قادم عندما يهدأ الغبار عما يجري الآن في مصر والعالم العربي من تطورات هائلة، ويتم تنقيح ما حدث وتقييمه، فإن من حق وواجب الجيل الحالي أن يتأمل فيما جرى قبل أربعة عقود ليقدم خلاصة تجاربها لجيل بدأ تحمل المسؤولية.

هناك العشرات من الأسئلة عما حدث قبل وأثناء وبعد أكتوبر 73 وما إذا كان الإعداد الاستراتيجي للعمل العسكري كان كافيا من عدمه، وعما إذا كانت إدارة القتال قد استفادت من أقصى إمكاناتها وتجنبت نقاط ضعفها، وهل أدت نتائج الحرب إلى تحسين الموقف المصري بما يسمح بالدخول في مفاوضات مرفوع الرأس ماحيا مشاعر وحقائق هزيمة يونيو (حزيران) 67 من عدمه؟ وهل تم استعادة سيناء عسكريا ثم سياسيا ثم منطقة طابا بالتحكيم الدولي وأعدنا حدودها الشرقية إلى ما كانت عليه يوم 4-6-67؟ وإلى أي مدى يعتبر تحديد حجم القوات المصرية في سيناء بمثابة اجتراء على سيادة الدولة المصرية؟

هل أجاد الأداء السياسي بعد الحرب بتحقيق أقصى المكاسب أم تهاون؟ وما إذا كان ما يحدث في سيناء الآن من تجميع لقوى التكفير والإرهاب هو نتيجة لاتفاق السلام أم أن مصر قد تراجعت في قدراتها عن حماية سيناء وازداد الضغط على شمالها من قطاع غزة لأسباب فلسطينية وإسرائيلية، فأصبحت بحكم طبوغرافيتها في بعض مناطقها مأوى للإرهاب؟ وأخيرا هل دفعت مصالح وأهداف إسرائيلية وغربية وأيضا لقوى إسلامية عربية إلى فكرة تحويل سيناء إلى أرض خصبة جديدة للإرهاب تنقله من الحدود الغربية الشمالية للباكستان وأراضي أفغانستان وتأتي به إلى سيناء لأهداف في نفسها وللمزيد من إضعاف مصر في السنوات القادمة؟

ويستطيع القارئ أن يخرج لنفسه وبنفسه عن إجابات لهذه التساؤلات وأكثر إذا ما طالع بعناية وثائق هذا الكتاب وما كشف عنه من أسرار وحدد العلاقات بين الأفكار والمبادئ وصراعات القوى ومفاوضات السياسة واتفاق السلام، وبالتالي نتائجه ومدى صلاحيته.

أخيرا.. نعرف جميعا أن مياها غزيرة قد غمرت مصر والمنطقة وجرفت معها الكثير، ولكن لا أظن أن بمقدار أمة وشعب بحجمنا أن يسمح بتجريف ذاكرته ونضاله، أو يسمح لدروس ماضيه القريب بالتسرب إلى جانب ما يحرق الآن من رموز الحضارة المصرية.. ذلك أمر لا يمكن السماح به حفاظا على حقوق أجيال قادمة.

أحمد أبو الغيط أمتعنا بتقديمه أكثر المسائل جدية وعمق بأسلوب سهل ممتع، وعرض الحقائق، وترك للقارئ أن يختار موقفه.

* سفير مصر السابق لدى كل من: إثيوبيا، كينيا، السودان، إسرائيل