عادل عبد الصمد يثير الجدل في «المتحف العربي للفن الحديث»

منحوتته الشهيرة «ضربة رأس» زين الدين زيدان نقلت إلى قطر

«المزهرية الملعونة» المتأهبة للانفجار
TT

أول ما يلفت نظر زوار معرض الفنان الفرنسي، الجزائري الأصل عادل عبد الصمد الذي تحتضنه الدوحة هذه الأيام، هو العنف الذي أراده طاغيا وصادما.

من المدخل تستقبلك صالة كل ما فيها يشي بالغضب العارم. «الإناء الملعون»، تجهيز ضخم، يتوسط القاعة، هو عبارة عن مزهرية شرقية ذهبية، بطول ثلاثة أمتار ونصف المتر، تقف على قنبلة مكعبة الشكل، بارتفاع مترين، محشوة بالديناميت وأدوات الاتصال البالية. تفخيخ رمز شرقي، على هذا النحو، لا يبدو بريئا، خصوصا وأن سيارة سوداء متفحمة، بحجمها الحقيقي، صنعت من الفخار، مقلوبة على أحد جانبيها، وضعت خلف المزهرية. السيارة المحترقة تستدعي ذكرى انتفاضة الضواحي في باريس منذ سنوات، ولا شك أن عبد الصمد ليس بعيدا عن هذه الأجواء الفرنسية الملتهبة. في الصالة ذاتها شريط فيديو في الواجهة، نرى فيه قدم رجل عارية تطحن وردة بيضاء على رصيف، بشكل متكرر وعنيد. صوت خبطة القدم الهادر والمتواصل، هو الذي يبقى يرن في أذنك، وأنت تجول في المعرض، تتفرج على جنود عبد الصمد الموزعين على جدران عدة، ينتصبون باللونين الأبيض والأسود على رأسهم خوذاتهم، وبأيديهم رشاشاتهم، وهم يتخذون مواضع مختلفة، لكنهم حاضرون دائما ليذكروك بأن العسكرة تلفك وتحاصرك أينما ذهبت، ولا فكاك لك منها.

عادل عبد الصمد، مواليد الجزائر 1971، هاجر إلى فرنسا أثناء الأحداث الأليمة في الجزائر، وهو أحد الفنانين الذين صعد نجمهم في فرنسا وأوروبا في السنوات الأخيرة، وأقام معارض في أميركا وبريطانيا وكندا، وله أعمال تعرض بشكل دائم، في كثير من المتاحف الفنية الدولية، مثل مركز «جورج بومبيدو»، و«متحف الفن الحديث والمعاصر» في جنيف، ومؤسسة «فرنسوا بينو» في فينيسيا، ومؤسسة «ياز» في هونغ كونغ. كما تزامن افتتاح معرضه الفردي الأول في قطر، في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي ويستمر حتى الخامس من يناير (كانون الثاني) المقبل، مع انتقال منحوتته المثيرة للجدل، «ضربة رأس» التي تمثل تلك اللحظة التي انطبعت في رؤوس المتفرجين مع نهاية مونديال 2006. المنحوتة تجسد لاعب الكرة الشهير زين الدين زيدان وهو يسدد نطحة بالرأس إلى لاعب المنتخب الإيطالي ماركو ماتيراتزي، إثر تلاسن بينهما. هذه المنحوتة التي أثارت اعتراضا حين وضعت أمام مركز «جورج بومبيدو» في باريس، من قبل رياضيين، لأنها - بحسب رأيهم - تمثل مشهدا لا يتناسب والقيم الرياضية، تنتصب اليوم على كورنيش الدوحة، تأهبا لاستقبال ألعاب كأس العالم في قطر عام 2022. وفيما يتردد أن المنحوتة موجودة في قطر لوقت محدد، تقول معلومات أخرى إنها اشتريت بشكل نهائي.

لكن عبد الصمد قد لا يكون أقل إثارة في قطر منه في باريس، فمعرضه الفردي الذي يحمل اسم «العصر الذهبي» حافل بالأعمال الجدلية. لا يشعر المتفرج بالراحة وهو يدخل الصالة المخصصة لفيديو يرى فيه ديوكا ودجاجات مقيدة ومعلقة على ثلاثة جدران، تحيط بك من كل جانب، تشتعل في جسدها النار فجأة وتحترق، وهي تصدر صوتا جنائزيا. هذا الفيديو الصاعق، لا يستغرق أكثر من 19 ثانية، ويحمل اسم «ربيع» مما يستدعي «الربيع العربي» بطبيعة الحال. وكان الفنان قد أنجز فيديو مماثلا، يذكر بالبوعزيزي، أحرق فيه نفسه عرض في باريس.. مشاهد، رغم قصر مدتها، قاسية، إلى حد قد يجبرك على مغادرة القاعة بالسرعة القصوى، تجنبا للصدمة. ليس أقل شراسة مشهد القاعة التي زرعت بالسيوف والسكاكين. أدوات حادة تحولت إلى ما يشبه الباقات المغروسة في الأرض، كثرتها مستفزة، وتدعو للتفكر في كل هذه النصول التي شحذها الإنسان وتفنن في تشكيل مقابضها بألوان وهيئات مختلفة ليحولها إلى آلات قاتلة. وعلى جدار هذه الصالة، ربما لتأكيد المفارقة، بين الإنسان المتوحش والحيوان المتأنسن، فيديو لقرد تعلم الكتابة، يصف حروفه على الحائط ليشكل كلمات. ويقول الفنان، إن «تعليم القرد هذه المهارة تطلب منه ثلاثة أشهر»، لكن المهم أن التدريب أخرجه من حيوانيته الخالصة في نهاية المطاف.

في المعرض اصطفت أوان ذات شكل واحد، على صناديق متماثلة من فولاذ، لكن الأواني رغم تشابهها الشكلي الأولي، مصنوعة من مواد ذات ألوان مختلفة تماما، فمنها ما هو من ملح أو فخار أو ذهب أو قش. فمسألة الاختلاف لا تخضع لمقياس واحد.

العمل الأضخم والأكثر تأثيرا في نفس الزائر، هو الذي نحت على أربعة جدران كاملة لردهة كبيرة حملت اسم «شمس». صالة متسعة اكتست جوانبها بمنحوتات نافرة من الجص. يمكنك أن تشاهد لوحات متشابكة لعمال يشيدون مباني، حراس وجنود، بناءون، أكياس إسمنت. إنها جداريات ضخمة، هي تحية فنية بديعة، لكل من كد وتعب من أجل أن يشيد معمارا للإنسانية. يشتم الزائر في هذه القاعة رائحة تعب وجهد واستماتة، عبودية وخنوع.

«من التمعن في الصور دائما، ينطلق عبد الصمد، لينجز أعماله»، هكذا يشرح لنا القيم على المعرض الإيطالي بيير لويجي تاتسي، قائلا: «من الصعب فهم هذا الفنان من دون إدراك مدى أهمية الصورة في عمله». وعبد الصمد نفسه يقول إنه لا يتأثر بالكتابات وإنما بالصور ومنها ينطلق ليصيغ مشاهده ويجعلها ثلاثية الأبعاد. هذا ما نشاهده في اللوحات التي أعطت المعرض اسمها، أي «العصر الذهبي» وتمثل بنات الفنان الأربع اللواتي نحتهن في لوحة من نحاس أصفر، مطلي بالذهب، برزت فيها ملامحهن وحركاتهن وهن يلعبن بشكل جميل ومؤثر. يقول عبد الصمد: «إن صوت الأولاد كان دائما موحيا له منذ صغره، وإنه يعمل على إيقاع أصوات بناته، مما يجعلهن جزءا مهما من إبداعه». وفي صالة أخرى فارغة تماما، منحوتة من ملح لزوجة الفنان جوليا تطغى بروحها على المكان. المرأة تقف منتصبة القامة على صخرة مرتفعة في صدارة الغرفة وكأنها حورية، أو إلهة يونانية قديمة، تودع الزوار بردائها الأبيض، الطويل المشرق، بعد زيارة صاخبة لمعرض ليس فيه من الأمان غير هذه المحطة العائلية الأخيرة.

يسجل لـ«متحف الفن العربي الحديث»، استقبال فنان من طرز عادل عبد الصمد، رغم كل ما يثيره معرضه من جدل على مواقع التواصل الاجتماعي، فهو في النهاية رغم وجوده في الغرب، تشكل أعماله مرآة لمعاناة الإنسان في منطقته الأم، التي تسيل دماء أبنائها أنهارا، ويقف فنانوها على حافة نصل سكين.