اللبنانيون في البرازيل: أكثر من عددهم في لبنان بمرتين

للجالية التي تزيد على 6 ملايين مغترب ومتحدر 73 نائبا في البرلمان البرازيلي أشهرهم ابنة أخ المطربة صباح

TT

في بلاد الكرة والسامبا والسهول الخضراء، الممتدة آلاف الكيلومترات في البرازيل، لبنانيون هم ضعف عددهم في لبنان، لأنهم هناك 6 ملايين مغترب ومتحدر تقريبا، كنت واحدا منهم طوال 20 سنة بلا توقف قبل 6 سنوات.

أتذكر عندما وصلت في أواخر 1975 الى مطار «كامبيناس» البعيد 90 كيلومترا عن سان باولو، أنني لم أجد أخي، الذي سبقني بسبع سنوات في الهجرة الى بلاد الأمازون، ينتظرني على المطار، فقد ظن أنني سأصل الى مطار «كونغونياس» المجاور لمدينة سان باولو.. رحت أفكر ماذا أفعل، الى أن خطر لي تصفح دليل الهاتف، لأبحث عن رقم صديق له، من عائلة حداد، لكنني ذهلت، وصرخت في داخلي: يا الهي.. هل أنا في لبنان؟

رأيت أن الهواتف الخاصة بعائلة حداد في سان باولو بالآلاف، وكانت أكثر مما لآل حداد في لبنان بالتأكيد، وكذلك بقية العائلات اللبنانية.. عشرات الصفحات في دليل الهاتف بأي مدينة وبلدة برازيلية تراها مخصصة لمئات آلاف اللبنانيين، فسألت الشقيق عما حملهم الى البرازيل منذ 140 سنة تقريبا، ولا أدري بماذا أجابني، الا أن هذا السؤال هو أول ما يخطر للقادم الى بلاد، سكانها 170 مليون نسمة، ومساحتها 8 ملايين و508 آلاف كيلومتر مربع، ولها حدود مع جميع دول أميركا الجنوبية، باستثناء التشيلي والبيرو، لأنه يرى فيها انتشارا للبنانيين بطريقة لا يصدقها. الا أنه سيراهم مختلفين عن نظرائهم في لبنان، لأن البرازيل «برزلتهم» وجعلتهم جنسا ثالثا، لكنهم جزء مهم من شعبها، وقد يكون الأهم. اللبنانيون 6 ملايين مغترب ومتحدر في البرازيل، وهذا الرقم مستند الى تقديرات، ناتجة عن احصاءات وحسابات قديمة، تؤكد الآن أنه لم يبق منهم سوى بين 120 الى 140 ألف مغترب أبصروا النور في لبنان، ونسي أكثر من 60 في المائة منهم لغته العربية، والباقي هم جالية ضخمة متحدرة من الجيل الثاني والثالث والرابع والخامس، ومنتشرة في 26 ولاية برازيلية، أهمها ولاية سان باولو، حيث تشير الحسابات بأنهم فيها أكثر من 3 ملايين مغترب ومتحدر، أي تقريبا 8 في المائة من عدد سكانها، البالغين 35 مليون نسمة، أو 21 في المائة من سكان عاصمتها، سان باولو، حيث يقيم 14 مليون نسمة تقريبا.

وتلي سان باولو، جارتها ولاية الريو دي جنيرو، حيث يعيش فيها بين 400 و450 ألف مغترب ومتحدر، ومن بعدها الجارة الثانية لسان باولو، وهي ولاية بارانا، المعتقد أنه يعيش فيها بين 200 الى 250 ألفا من المغتربين والمتحدرين، معظمهم في عاصمتها، كوريتيبا، أو في مدينة «فوز دي ايغواسّو» المجاورة لحدود البرازيل المثلثة مع الباراغواي والأرجنتين، حيث يقال ان عدد اللبنانيين المقيمين في مدن وبلدات الحدود المثلثة، يزيد على 40 ألفا، معظمهم جاء من لبنان خلال الحرب الأهلية، والباقي من لبنانيي البرازيل والأرجنتين، التي يعيش فيها أكثر من مليوني مغترب ومتحدر سوري ولبناني.

تثبت هذه الأرقام حسابات مبنية على احصائيات من مرفأ مدينة سانتوس، البعيدة 70 كيلومترا عن سان باولو، وأخرى من مرفأ مدينة ريو دي جنيرو، وهي عاصمة ولاية الريو، حيث 99 في المائة من المغتربين اعتادوا الوصول من بيروت بالبواخر عبر هذين المرفأين في البرازيل حتى منتصف القرن الماضي، ثم ينتشرون الى بقية المدن، أو حتى الى الدول الأميركية الجنوبية المجاورة.

في الاحصائيات، ومعظمها من السفارة الفرنسية في البرازيل زمن الانتداب الفرنسي على لبنان، أن 107 آلاف مهاجر وصلوا من منطقة الشرق الأوسط بين 1884 و1939 ومعظمهم كانوا حاملين لوثائق سفر عثمانية، لذلك كان البرازيليون يسمون الواحد منهم «توركو» أي تركي، وأنهم استقروا في سان باولو بشكل خاص، لأنها كانت وما تزال القلب التجاري والزراعي والصناعي للبرازيل، وكان من بينهم أتراك حقيقيون ويهود من لبنان وسورية والعراق، بالاضافة الى نسبة من الأرمن، الا أن السوريين واللبنانيين كانوا الغالبية، أي تقريبا 90 ألف مهاجر غادروا لبنان وسورية الى البرازيل حتى بداية الحرب العالمية الثانية.

وفي تقرير صدر في 1920 عن القنصلية الفرنسية بسان باولو أن 45 ألفا من اللبنانيين هاجروا الى البرازيل بين 1904 و1914 وأن عددهم في 1920 وصل الى 130 ألفا في سان باولو وحدها، فيما كانوا 20 ألفا في ولاية بارا، بأقصى الشمال البرازيلي المجاور لفنزويلا، وحوالي 15 ألفا في ولاية ريو دي جنيرو، وتقريبا 14 ألفا في ولاية ريو غراندي دو سول، في الجنوب البرازيلي المجاور للأرجنتين، بالاضافة الى 12 ألفا و271 مهاجرا استقروا في ولاية باهيا، بالشمال الساحلي للبرازيل على الأطلسي، أي أنهم كانوا 200 ألف مغترب قبل 70 سنة، وصل الى البرازيل من لبنان خلالها ما يعادل عددهم في ما بعد، برغم أن الهجرة من لبنان الى البرازيل تقلصت طوال الحرب العالمية الثانية، لتوقف البواخر والطائرات عن عبور المتوسط والأطلسي القريب من السواحل الغربية الأوروبية، لتعود بزخم أقل بعد نهاية الحرب حتى 1960 حين بدأت البرازيل تفقد بريقها كبلاد جاذبة للمهاجرين، بسبب ظروفها الاقتصادية وظهور دول جديدة بدأت تغري أكثر، كدول الخليج وأفريقيا وكندا وأستراليا، بالاضافة الى التحسن الذي شهده الاقتصاد اللبناني منذ الستينات، حتى بداية الحرب الأهلية في 1975 التي هاجر الى البرازيل على أثرها أكثر من 50 ألفا من اللبنانيين.

وتدل الاحصاءات أن اللبنانيين في البرازيل كانوا أكثر من مليوني مغترب ومتحدر منذ 50 سنة، لذلك أصبحوا 6 ملايين بعد نصف قرن، لأن نسبة تزايدهم التراكمي ارتفعت 3 مرات تقريبا، علما أن الكثيرين منهم غادروها الى فنزويلا والأرجنتين والأكوادور خلال القرن الماضي، أو عاد بعضهم الى لبنان، اذ يذكر تقرير في منتصف الستينات للقنصلية الفرنسية بسان باولو، أن ربع سكان مدينة زحلة اللبنانية كانوا يتكلمون برتغالية البرازيل قبل 35 سنة، لكثرة ما هاجر أبناء المدينة الى بلاد الأمازون، وعادوا منها اليها.

وللبنانيين في البرازيل المشهورين منهم على كل صعيد، كباولو سليم معلوف، الذي هاجر والده من مدينة زحلة في عشرينات القرن الماضي. فقد كان باولو معلوف حاكما في بداية الثمانينات لولاية سان باولو، ومرشحا فشل 3 مرات في الانتخابات الرئاسية، التي ما زال يحلم بالنجاح فيها ليصبح رئيسا للبرازيل. كما هناك اكثر من 73 نائبا في البرلمان البرازيلي من أصل لبناني، ووزيران و3 حكام ولايات، والكثير من الصحافيين ورجال الأعمال والتجار والصناعيين والسياسيين والفنانين. إلا أن الصحافة العربية تراجعت في البرازيل، التي شهدت صدور أكثر من 30 مطبوعة بالعربية في أربعينات القرن الماضي، أهمها مجلة «المراحل» التي استمرت 100 عام، وصحيفة «أخبار الوطن» اليومية، التي احتجبت عن الصدور قبل 12 سنة، وجريدة «الأنباء» التي كان يرأس تحريرها نواف حردان، الراحل قبل شهرين في لبنان، بعد 30 سنة من الهجرة في البرازيل.

والبرازيليون يشبهون المصريين الى حد كبير، فهم مسالمون ومحبون للحياة والمرح والنكتة، ويأكلون الفاصوليا السوداء، بالطريقة التي يأكل فيها المصريون الفول المدمس. وكما هي مصر هبة النيل، كذلك البرازيل هبة الأمازون، المعتبر أغزر نهر في العالم.

ويعشق البرازيليون المأكولات اللبنانية، المنتشرة الى درجة يعتقدون في الأرياف بأنها مأكولات برازيلية، كالكبة والصفيحة والكبة النيئة واللبنة والحمص والورق عنب. كما لن تستغرب اذا رأيت البرازيليين يطلقون على أبنائهم أسماء: عمر وعلي وسليم وفاطمة وجميلة وليلى ونادية، ولا تستغرب أكثر وجود شخصية اللبناني في معظم مسلسلات التلفزيونات المحلية، أو شخصية «المهاجر سليم» في الروايات الأدبية، ومنها للروائي الأشهر في البرازيل، جورج آمادو.

وللبنانيين نواديهم، المعتبرة أشهر وأرقى النوادي في البرازيل، كنادي مونتي ليبانون (جبل لبنان) في سان باولو والريو، أو كنادي زحلة وراشيا الفخار وراشيا الوادي وحاصبيا وبيروت، ومعها مئات النوادي والجمعيات الاجتماعية الأصغر. كما أنهم من أكثر الجاليات نفوذا في الحقول الاقتصادية، ويسيطرون على قطاع الأقمشة والملبوسات بشكل كبير، وعلى قطاع الفنادق، ولبعضهم صناعات، هي الأكبر في بلاد الأمازون، المعتبرة جبار أميركا اللاتينية الاقتصادي، لأنها ثامن قوة اقتصادية في العالم، اذ بلغ انتاجها القومي في العام الماضي 645 مليار دولار، واحتياطاتها من العملة الصعبة كانت بحدود 40 مليارا من الدولارات، الا أن ديونها الخارجية 120 مليار دولار تقريبا، لكنها ليست مشكلة لبلاد واعدة، تلبس وتأكل مما تنسج وتزرع وتستهلك مما تنتج وتصنع، لذلك يسمونها أرض المستقبل. الا أن البرازيليين لا يميلون الى هذا النوع من الألقاب، ويرغبون في أن تكون البرازيل بلاد الحاضر، لا بلاد المستقبل الذي يتأخر دائما بالوصول.

جالية أعطت اسم «بيليه» لأشهر لاعب كرة قدم كان البرازيلي، إديسون أرانتيس دي ناسيمنتو، فتى عمره 12 سنة، حين بدأ يلعب الكرة مع أبناء الجيران في قريته «تريس كوراسوينس» (القلوب الثلاثة) بولاية ميناس جيرايس، في وسط البرازيل. وفي احدى المرات مر بهم بائع لبناني، يحمل «كشة» بضائع متنوعة على ظهره، وأراد أن يستريح تحت شجرة، حيث رأى الفتيان يلعبون.

ولأنه لاحظ أن اديسون يبالغ بلعب الكرة برأسه أكثر مما ينبغي، فقد صرخ به وهو يشير الى قدميه: «بي ولاه.. بي ولاه» أي «بقدمك .. بقدمك ولاه» ففهمها الفتى سريعا، وراح يلعب بقدميه. الا أن الرفقاء كانوا يكررونها كلما نسي استخدام قدميه وهو يلعب معهم، عارفين أن «بي» تعني قدما بالبرتغالية، وجاهلين أن «ولاه» يستخدمها اللبنانيون حين يرغب أحدهم بمناداة من لا يحترمه. لكن «بي ولاه» أصبحت «بيليه» عندما احترف اللاعب اديسون الكرة.. وكان ذلك مع فريق «سانتوس» قبل 44 سنة.

نائبة برازيلية.. خالتها المطربة اللبنانية صباح في البرازيل نائبة من أصل لبناني، خالتها المطربة اللبنانية صباح.. اسمها جنديرا، وهي ابنة أنطوان فغالي، المهاجر في البرازيل منذ 55 سنة.

ولدت جنديرا في مدينة كوريتبا، عاصمة ولاية بارانا، المجاورة لسان باولو قبل 43 سنة، وهي متخرجة بالطب من جامعة الريو دي جنيرو، وبدأت حياتها السياسية منذ 19 سنة، وفازت منذ 1987 بالانتخابات النيابية في 4 دورات متتالية. وزارت جنديرا لبنان مرتين مع والدها، الذي عاد لرؤية شقيقته، المطربة الشهيرة صباح.

ويقال إن أنطوان، أو أنطونيو كما يسمونه في البرازيل، يعيش وقد بلغ السابعة والستين متنقلا بين البرازيل وأستراليا.

=