لوحات فريدا كالو تضيء خريف باريس

معرض عن الحب المتشابك الذي جمع الرسامة المكسيكية ومعلمها ريفيرا

ترسم وهي على فراش المرض
TT

كأن لهذه المرأة وهجا لا ينطفئ أمام رياح الزمن. إنها الرسامة المكسيكية فريدا كالو التي يقام، حاليا، معرض لأهم أعمالها في متحف «لورونجري» في باريس. إن ذلك السحر لا ينبعث من تفاصيل مرضها وحياتها المأساوية فحسب، بل هو آتٍ، بالتأكيد، من جمالها المميز الذي ينطبق عليه قول الشاعر: «يا عاقد الحاجبين..»..

شبه ناقد فرنسي العلاقة بين صاحبة المعرض وصديقها الرسام دييغو ريفيرا، وما اعتراها من تجاذبات، بالغرام الجامح الذي ربط بين نجمة هوليوود إليزابيث تايلور وزميلها ريتشارد بيرتون، الرجل الذي تزوجته مرتين. لقد عشقت فريدا كالو (1907 - 1954) ريفيرا الذي كان يكبرها بأكثر من عشرين عاما، وتزوجته ثم طلقته بعد أن خانها، وعادت واقترنت به لأنها لم تكن تحسن أن تعيش من دونه. وحتى بعد رحيلهما، بقيا مقترنين ولا يمكن أن يذكر اسم أحدهما دون ذكر اسم الثاني.

المعرض المقام لها في باريس لا يغفل تلك الثنائية المصيرية. فهو يحمل عنوان «فن التشابك»، وهو يضم قرابة مائة لوحة لهما معا، كنموذجين للفن المكسيكي أوائل القرن العشرين. مع هذا، يرى النقاد أن العدالة لا تتحقق بوضع الفنانين في مرتبة واحدة. لقد كانت فريدا ترسم أفضل من ريفيرا رغم أنه كان بمثابة أستاذها. فهي من أولئك المبدعين القلائل الذين لم يرسموا بالريشة والأقلام فحسب، بل بشرايين القلب. لقد نشرت عذابات حياتها على أقمشة لوحاتها وصورت الحوادث التي تعرضت لها وهشاشة عظامها وحالات إجهاضها، كل ذلك بأسلوب واقعي يكاد يقترب من الرسم الفطري، حيث كان وجهها الحقيقي بطلا لكل ما ترسم.

تضع فريدا مسند اللوحة أمام المرآة وتتناول الفرشاة لكي ترسم، من خلال ملامح وجهها المميزة وحاجبيها الأسودين المتصلين، ما يدور في أعماق روحها من ألم واضطرام. لذلك فإن سيرة الرسامة المكسيكية التي ألهمت الكثير من الكتاب كما أغرت المنتجين الأميركيين بنقل قصتها إلى الشاشة في فيلم روائي. لقد كانت في الثامنة عشرة حين ركبت الحافلة عائدة من المدرسة فاصطدمت الحافلة بالترام ومات من ركابها من مات وجرح من جرح. وكان نصيب فريدا سيخ معدني انغرز في جسدها وخرج من ظهرها. لقد كتب الحادث عليها أن تتوجع منذ بداية حياتها، حيث خضعت لسبع عمليات جراحية في العمود الفقري واضطر الأطباء إلى بتر ساقها وارتدت حزاما حديديا حول جسدها طوال حياتها لتموت وهي في السابعة والأربعين من العمر.

أشهر لوحاتها وأجملها رسمتها وهي مستلقية في فراش المرض. إنها ليست رسامة فحسب، بل المرأة التي أحبها دييغو ريفيرا، الرمز الفني والسياسي للأمة المكسيكية التي كانت تعيش ربيع ثورتها. أما هي فقد كانت معشوقة لعدد من الرجال والنساء، أبرزهم الثائر السوفياتي ليون تروتسكي الذي كان لاجئا في المكسيك، آنذاك. ولعل ذلك الاضطراب في علاقاتها جعل حياتها وأخبارها تطغى على رسومها وإبداعها الفني. لذلك فقد ظلت أعمالها خارج العرض لفترة طويلة ويصعب الحصول عليها أو اقتناؤها بسبب تفرقها وتبعثرها بين المجموعات الخاصة في بلدها، حسبما تقول ماري بول فال، المشرفة على معرض فريدا كالو الحالي في باريس. وعلى سبيل المثال فإن مركز بومبيدو للفن الحديث لا يملك سوى لوحة واحدة لها. أما لوحاتها المحفوظة في المكسيك فمحظور إخراجها من البلد بناء على قرار رسمي. لذلك فإن عرض مجموعة منها تصل إلى الثلاثين، في باريس، هو مناسبة مدهشة وفرصة للجمهور الذي سمع عنها وشاهد الممثلة سلمى حايك تؤدي دورها على الشاشة، دون أن تطالع أعينه لوحاتها خارج الكتب والمجلدات المطبوعة.

كان مقدرا لهذا المعرض أن يقام قبل سنتين، بمناسبة احتفالية «سنة المكسيك في باريس»، لكنه ألغي بسبب الأزمة الدبلوماسية التي قامت بين البلدين بسبب احتجاز المواطنة الفرنسية فلورانس كاسيز في سجن مكسيكي في ظروف غير واضحة. إن هذه اللوحات التي يجري عرضها بعد طول انتظار هي استعراض لسيرة الحب التي جمعت بين فريدا ودييغو، العاشقين اللذين تشابكا وتمزقا وعلا صراخهما في منزلهما «كازا آزول»، البيت الأزرق الذي كانت كالو تصفه بأنه لون الحب.

إنها ترسم وجهها في «بورتريه» ذاتي مع قرد يطوق عنقها، أو ترسم نفسها طفلة رضيعة في حضن مربية ضخمة بينما السماء تمطر ماء وحليبا، أو وهي تحمل على جبينها صورة عظمين متصالبين، علامة الموت. إن لوحاتها مليئة بأوراق النبات والقرود والببغاوات والإشارات الرمزية، وكذلك بأطفال مجهضين وبحافلة ذات مغزى. ورغم السيرة المعذبة فإنها لوحات تضج بالحيوية والألوان الصريحة ونضارة المرأة الجميلة والشابة وتدعو إلى التفاؤل والتعلق بالحياة.