أفلام كردية في مهرجان لسينما تؤكد هويتها الخاصة

أفلام تجوب الأرض الموعودة

من «قبل سقوط الثلج»
TT

غدا السبت، تنطلق الدورة الثامنة من مهرجان الفيلم الكردي في لندن وتستمر حتى 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي. خلال الفترة سيعرض المهرجان 121 فيلما، من بينها 23 عملا طويلا، و52 فيلما قصيرا، وثمة 46 فيلما تسجيليا. هناك مسابقة للأفلام القصيرة تحتوي على 20 فيلما تتنافس على جائزة باسم المخرج الكردي -التركي الراحل (بعد طول مناهضة للسلطات التركية في الستينات والسبعينات) يلماز غونيه.

ما تكشفه هذه الأرقام هي الوفرة. قبل سنوات ليست بالبعيدة، كان من اللافت وجود فيلم من إخراج سينمائي كردي واحد. كان الحديث في المهرجانات العربية هو إذا ما كان من الصحيح تقديم الفيلم تحت هذا الاسم أو بالانتماء إلى البلد الرسمي الذي جاء المخرج منه، أو إلى جهة إنتاجه. اليوم تغير الوضع، لأنه بصرف النظر عن المعطيات السياسية، فإن الأفلام التي قام مخرجون أكراد بتحقيقها عاما بعد عام في السنوات الأخيرة، باتت تشكل كيانا لا يمكن تجاهله. واللافت هي أن الكثير منها أفلام جيدة ومشغولة بحرفة ممتازة.

هذا يتضح في أكثر من فيلم توفره هذه المناسبة لخليط من المشاهدين العرب والأكراد والغربيين الذين سيتابعونها. خد مثلا الفيلم الجديد لناهد قوبادي «حول 111 فتاة» المصور في إيران والحامل موضوعا جديرا بالطرح.

إنه حول موظف الدولة (رضا بهبوني) الذي ينطلق من العاصمة إلى الإقليم الكردي بحثا عن 111 فتاة كردية كتبن رسالة يعلنَّ فيها عن إقدامهن، خلال أربعة أيام، على الانتحار جماعيا. للإيضاح، ليس الانتحار احتجاجا على عدم وجود أزواج فقط (بعد حروب مات فيها كثير من الرجال على أي حال)، بل على وضع اجتماعي لا يتحسن تركهن وحيدات ويائسات. الموظف يهرع لفعل شيء ما لإنقاذهن.. ينتقل بالسيارة من مكان لآخر في تلك الجرود والجبال باحثا عنهن ومتسابقا مع الزمن.. خلال هذه الرحلة نجد عين المخرجة (قريبة المخرج المعروف بهمان قوبادي) على الوضع بأسره. المجتمع الذي بدلا من صرف جهده لتوفير مناخ عيش مقبول، يلاحق شابا مكبلا ومغطى الرأس بتهمة الزنا. طريفة تلك المشاهد التي نرى فيها ذلك الرجل وهو يركض في الطرق الريفية مقيد اليدين ورأسه مغطى بكيس قماشي، ثم حزينة تلك المشاهد التي نرى فيها إحدى النساء وهي تكشف عما يجول في بال المجموعة التي ستقدم على الانتحار.

في الحقيقة، بين المشهد الطريف والمشهد الحزين يتناوب الفيلم بأسره، لكن الطرافة من النوع الدال تماما كالمشهد المثير للحزن. في أحد تلك المشاهد تنقلب السيارة التي يستقلها الموظف ورفيقاه (رجل من الإقليم وصبي يعرف تضاريس القرى المحيطة). يمر أربعة رجال أكراد على تلك الطريق الجبلية ويهبون للمساعدة.. حين يعيدون السيارة إلى وضعها الصحيح، تتدحرج أمام أعين الجميع وتهوي إلى الوادي.

لكن الفيلم ليس كوميديا على الإطلاق.. فيه من دراما المواقف ما يواصل نقده لكل الأطراف: المسؤولون الإيرانيون الذين لا يكترثون، والأتراك الذين يرسلون إلى الحدود 111 شابا للزواج من الفتيات قبل تنفيذ انتحارهن، والكرديات اللاتي يودعن الحياة بلا نضال.. كل ذلك محوره هذا الموظف الذي يريد أن يفعل شيئا لكنه لن يستطع.

* رحلة إلى النرويج

* «قبل سقوط الثلج» هو فيلم ثان تراه لندن للمرة الأولى (كشأن معظم هذه الأفلام). هذه الدراما القاسية آسرة بإدارة مخرج كردي من العراق اسمه هشام زمان. بعد رحيل أبيه أصبح الفتى سيار (عبد الله طاهر) هو سيد البيت وينتظر من شقيقته نيرمين الزواج ممن وافق عليه وليس ممن تحب.. حين تهرب من القرية متسللة إلى تركيا ومنها إلى النرويج. سيار سيعد ذلك ليس خروجا عن الطاعة فحسب؛ بل فعل على شقيقته أن تدفع ما يمحوه من دمها بما يغسل شرف العائلة. سيتسلل، بالاختباء داخل صهريج، إلى تركيا ويحط في إسطنبول، ثم يبحث عن شقيقته ويجدها، لكنها تهرب. سيلتقي هناك بفتاة مهاجرة تتخفى في شكل صبي حتى تتحاشى صنوف الإساءة إليها.. سيكون الوحيد الذي يعرف جنسها الحقيقي في الرحلة التي يشترك فيها صوب النرويج، حيث علم بأن شقيقته حطت فيها. من دون كشف مزيد من الأحداث، فإن الجزء الذي تقع مفارقاته في تركيا يتولى تقديم الوضع الاجتماعي المعقد لمدينة تعج بالمهاجرين المعوزين والباحثين عن القدر الأدنى من الأمان (عرب وأكراد وسواهم). هذا الجزء هو الثاني من ثلاثة أجزاء من العمل بحسب الانتماء الجغرافي.. الأول في شمال العراق، والثاني في تركيا، والثالث في النرويج. ومع أن سيار هو المحرك الأول للأحداث والفاعل الرئيس لها، إلا أن لكل جزء من الفيلم نسيجا فنيا يتجاوزه. تصوير جيد للبيئة قبل أن يعود وجود سيار وفتاته في ثلوج النرويج إلى حيز الحكاية الفردية أكثر مما سبق.

معايشة حقيقية وموضوعية فذة من المخرج ترصد متاعب وآمال وآلام بطله على نحو حافل بالملاحظات. تقنيا لعله أفضل الأعمال المتوفرة من حيث حرفية التنفيذ ومنح الفيلم ما يحتاجه من عناصر إنتاج لكي يبدو على النحو الفني المتكامل الذي هو عليه.

* رجل القانون

* وهناك رحلة ثالثة تجوب الأنحاء في «بيكاس» لكرزان قادر: حكاية شقيقين ينويان السفر إلى أميركا.. لا مال ولا جواز سفر، لكنه حلم يتراءى لهما معتقدين أن أميركا تكمن خلف جبال كردستان العراق. سبب الوله هو شخصية سوبرمان الذي يعتقدان أنه كما صورته السينما لهما. على هذا الوعد ينطلق أحدهما في محاولة تدبير شؤون السفر، والثاني في إثارة الحماس له، وبعد قليل هاهما يدخلان معتركات الاستنتاج الطبيعي بأن هذه الرحلة ليست ممكنة؛ بل هي خطرة.

على الرغم من قدر من حسن التنفيذ مع اختيار جيد لأماكن التصوير، هناك سذاجتان: واحدة عند الطفلين، والأخرى لدى المخرج الذي لم يستطع التعامل جديا مع الحلم المستحيل واكتفى بالعرض المسلي وحده. يبقى فيلما لافتا وربما جماهيريا لمن لا يبغي من الفيلم أكثر من هذا الشأن.

مثل هذا التعامل الأجدى موجود في فيلم هينر سليم (أشهر مخرج كردي بجانب بهمان قوبادي) «أرض حلوة.. أرض مرة» الذي يتعامل ورجل قانون جرى تنصيبه على قرية قريبة من الحدود الإيرانية والتركية حيث ينشط التهريب. ليست هناك عصابة واحدة؛ بل عصابتان؛ الأولى قوامها نساء مهربات، وهذه لا تتعاطى في الشأن الداخلي. الأخطر منها عصابة من المترئسين والنافذين تريد الإطاحة بالقانون. يُقرأ الفيلم كما يُقرأ فيلم الوسترن (مع بطل يرتدي القبعة ومسدسات حول الخصر وجياد وطبيعة إلخ..)، لكنه يبقى عملا كرديا اجتماعيا خاصا وجديرا بالإعجاب. السبب هو أن سليم يودع في هذا النوع من السينما كيانا طبيعيا وقابلا للتصديق حول ما يواجهه الاستقلال الكردي الذاتي من عوائق. ولسان حاله يقول إن الاستقلال الذاتي والخروج من تبعات مرحلة سابقة شيء، والقبول بالقانون واحترام سيادته شيء آخر.

* البحث عن هوية

* مع غياب دولة كردية كاملة ومستقلة، فإن ما يمكن تسميتها «سينما كردية» لا تعدو حاليا أفلاما يخرجها سينمائيون أكراد يعيشون في العراق أو في إيران أو في تركيا أو في بلاد الغرب. إنتاجيا، كثير من هذه الأفلام يستفيد من تمويل متعدد النطاق تشترك فيه شركات فرنسية أو ألمانية أو هولندية. هذا النوع من الإنتاج قائم حتى بالنسبة للأفلام العربية من دول مختلفة. يبقى الموضوع وشخصياته.. هذا الجانب هو وحده ما يمكن الاتكال عليه في تعريف وتحديد هوية الفيلم الكردي أكثر من سواه.

* البحث عن هوية

* مع غياب دولة كردية كاملة ومستقلة، فإن ما يمكن تسميتها «سينما كردية» لا تعدو حاليا أفلاما يخرجها سينمائيون أكراد يعيشون في العراق أو في إيران أو في تركيا أو في بلاد الغرب. إنتاجيا، كثير من هذه الأفلام يستفيد من تمويل متعدد النطاق تشترك فيه شركات فرنسية أو ألمانية أو هولندية. هذا النوع من الإنتاج قائم حتى بالنسبة للأفلام العربية من دول مختلفة. يبقى الموضوع وشخصياته.. هذا الجانب هو وحده ما يمكن الاتكال عليه في تعريف وتحديد هوية الفيلم الكردي أكثر من سواه.