إحراق «مكتبة السائح» التي تضم 85 ألف كتاب.. عمدا وزورا

الأب سروج: أسامح الذين أحرقوا المكتبة وأصلي لكي يحمي الله طرابلس

إبراهيم سروج (تصوير: نذير حلواني)
TT

وقعت «الصدمة» على أهالي طرابلس مدوية. البعض لا يريد أن يصدق، والبعض الآخر يصفها بـ«المجزرة» أو «الكارثة». خبر إحراق «مكتبة السائح» ليل الجمعة، لم يكن يحتاج لمن ينقله، فدخان الكتب المحترقة تحول سحابة كبيرة غطت المدينة، وروائحها النفاذة، اخترقت الأمكنة. تحول ليل الناشطين الفيس بوكيين إلى نهار، وهم يستنهضون بعضهم بعضا، للوقوف صفا واحدا ضد جريمة لم تشهد لها طرابلس مثيلا حتى خلال الحرب الأهلية اللبنانية. وما إن انبلج الصباح حتى كان لبنان كله بسياسييه ومدنييه يستنكر ويدين، لكن الكتب في جزء منها كانت قد قضت نحبها.

وبعد ظهر أمس، تجمع الطرابلسيون أمام المكتبة المحترقة، وأعلنوا تضامنهم مع الأب سروج، رافضين التفرقة الطائفية البغيضة، ومعلنين فتح باب التبرعات، لإصلاح ما يمكن إصلاحه، وثمة من جاء بكتبه، قديمها وجديدها، لتصبح نواة لمكتبة السائح بحلتها الجديدة. ودان ناشطون مدنيون، حضور السياسيين للتضامن مع المجتمع المدني بينهم النائبان أنطوان زهره وسامر سعادة، معتبرين أنهم يمارسون «التوظيف السياسي الرخيص». وقال الناشط جهاد جنيد «نحن لا ننسق مع سياسيين ولا يشرفنا وجودهم معنا، لأنهم سبب فيما نعانيه». وكانت مجموعات من المجتمع المدني بدأت بالتنظيف وإزالة الركام، رغبة في إعادة المكتبة إلى أفضل مما كانت عليه في أسرع وقت.

«مكتبة السائح» التي أحرقت عمدا، بعد اتهام صاحبها الكاهن الأرثوذكسي إبراهيم سروج، زورا بالإساءة إلى الإسلام، كانت تضم 85 ألف كتاب ومخطوطة. منشورات بعضها نادر، ومنها ما يعود إلى 100 سنة خلت. من يستعصي عليه الحصول على كتاب، لم يكن يجده إلا عند الأب سروج. إنه وهو جالس وراء طاولته القديمة، وحوله كتبه، المزار المفضل، لكل من يريد أن يرى وجه طرابلس التسامحي المستنير، ويهوى استكشاف قلب المدينة وروحها.

الاعتداء السافر جاء بعد أن اتهم الأب سروج بالإساءة إلى الإسلام من خلال مقالة، تبين أنها لأحمد القاضي. ومنذ ثلاثة أيام، وبسبب هذا الاتهام، تعرض موظف المكتبة بشير حزوري لإطلاق نار عليه، فكان هذا بمثابة الإنذار الأول، وجاءت القاضية يوم أمس بإضرام النار في المكتبة. ولولا أن الباب الثاني للمكتبة من الحديد، وأن الكتب فيها تعيش فيما يشبه الأحشاء الملتوية، لكانت النار قضت على كل شيء.

وتوارى الأب سروج بعد الحادثة، كما أطفأ جواله، وقيل إنه في مكان آمن خشية على حياته. لكنه عاد ليظهر في مؤتمر صحافي عقد ظهر أمس، في مكتب قائد سرية طرابلس العميد بسام الأيوبي، وهو يعانق رئيس هيئة العلماء المسلمين سالم الرافعي. وقد قال هذا الأخير: «تبينت لنا مظلومية الأب سروج والله حرم علينا اتهام الناس دون وجه حق وهناك من يريد أن يزرع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين»، داعيا إلى «محاسبة من بث الشائعات وحرض، وليس الشباب المتحمس الذي تم تضليله».

قائد سرية طرابلس بسام الأيوبي من ناحيته أكد «أن الذين أطلقوا الرصاص معروفون وكذلك من أضرم النار، من يريد ضرب العيش المشترك في طرابلس مصيره السجن».

أما الأب سروج نفسه الذي التزم صمتا تاما منذ أحرقت مكتبته فاكتفى بالقول: «أسامح الذين أحرقوا المكتبة وأصلي لكي يحمي الله طرابلس».

وتوالت طوال النهار الإدانات بحرق المكتبة من سياسيين من مختلف التوجهات، وقال رئيس حكومة تصريف العمال نجيب ميقاتي: «نحن ندين إحراق مكتبة السائح، ونرفض أي إساءة إلى مدينة طرابلس وأبنائها، فطرابلس كانت مدينة العالم والعلماء وستبقى». وأضاف: «نحن أمة نقرأ ونرفض كل تصرف انفعالي يسيء إلى صورة طرابلس».

الوزير محمد الصفدي عد أن «ما جرى مرفوض من أهل طرابلس جميعا. فمدينتنا طالما احتضنت التنوع والمسيحيون فيها جزء لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي».

ووصف مفتي طرابلس والشمال مالك الشعار ما حدث بأنه «جريمة نكراء»، قائلا، إن «الأب سروج من أعلام طرابلس ورجل من رجالاتها، وهو رجل الفكر والحوار والانفتاح، ابن طرابلس التي أحبها ووقف مع أهلها». وأضاف الشيخ الشعار: «يهمنا أن نوضح أن الكلام الذي نسب إلى الأب المحترم إبراهيم سروج عار عن الصحة، وإنما هو كلام من صنع أياد خبيثة قديمة، صدر مرة».

وكان الأب سروج في مقابلة تلفزيونية معه منذ عدة أيام قال: «أنا كاهن رومي أرثوذكسي، أحمل لواء المسلمين وأجاهد معهم، كي يكونوا خير أمة أخرجت للناس». ومما قاله سروج في معرض الاعتداء على المسيحيين في الشرق: «هذا من الجنون والكفر والبهتان، وليس من الإسلام. نحن أخوة في هذا الشرق العظيم، وعلينا أن نتحد لنكون منارة العالم».

الأب إبراهيم سروج، أحد أشهر الشخصيات في طرابلس ومن أكثرها تقديرا لدى الناس، هو كاتب، ورجل دين، وناشر، وعاشق للقراءة. صمدت طوال الحرب الأهلية، مكتبته العريقة التي جمعها، كتابا تلو كتاب، منذ كان صغيرا، يشتري الواحد منها بقرش وقرشين. وأسس مكتبته مع شريكين، ليعود ويبقى فيها وحده، يديرها ويقبع في زواياها، ويحنو على مؤلفاتها كما الأب على أولاده. لملم مخطوطات من كل مكان استطاعه، وحصل على أقدم الكتب وأكثرها ندرة. وشغف بالقواميس القديمة بمختلف اللغات. الرجل العروبي المنفتح، لم يسمع أحد في طرابلس يوما إلا عن نبله وحبه للعلم. «مكتبة السائح»، هي أشبه بدهاليز وممرات ضيقة عليك أن تمر بين أرفها الشاهقة وأنت تبحث عن الكتب. وإذا ما أراد الأب سروج أن يبحث لك عن كتاب، فسيضطر على الأرجح لتسلق سلمه الخشبي ويصعد عاليا ليتناوله لك. هي ليست كالمكتبات الحديثة التي تعرفها، فكثير من كتبها لفت بالنايلون لحفظها من الرطوبة وغيرها وضعت في كراتين لعزلها. فصاحب المكتبة كل ما كان يهمه هو أن يحميها ويدافع عنها من عفن المكان القديم الذي اضطر لأن يضعها فيه. والآن يبدو أنه بات عليه أن يحمي ما تبقى من نوع آخر من العفن.

وصف بعض الطرابلسيين المعتدين على المكتبة بأنهم «تتار» و«مغول»، وثمة من قال إن مشهد حرق مكتبة الأب سروج، ذكره بمشهد إحراق مكتبة ابن رشد في فيلم يوسف شاهين الشهير «المصير»، فيما قال الباحث في الآثار الدكتور خالد تدمري «إن إحراق مكتبة السائح كإحراق الإفرنجة لدار العلم في ميناء طرابلس».

ويزداد الأسى لرؤية مشهد الحريق، لأن المكتبة تقع في الطابق الأرضي، من مبنى عثماني، عتيق، يعود عمره إلى 120 سنة. المبنى الموجود في شارع الراهبات، على مبعدة خطوات من سوق الصاغة والجامع المنصوري الكبير، متصدع، وتأكله الرطوبة، ويحاول أصحابه استرجاعه لهدمه بأي ثمن. والهجوم الجهنمي على الكنز الذي لا يقدر بثمن الذي جمعه الأب سروج طوال 40 سنة، ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد. أحرق كتبا لا يمكن استرجاعها لندرتها، أصاب العيش المشترك في المدينة في الصميم، واعتدى على مبنى أثري يستحق أن يحفظ برموش العين.