والدة ضحية سقطت في انفجار الضاحية تتمنى زفها بفستان أبيض إلى الجنة

(«الشرق الأوسط») تتحدث إلى ذوي الضحايا في مستشفى بهمن

ماريا إحدى ضحايا تفجير الضاحية («الشرق الأوسط»)
TT

تجلس والدة ماريا على رصيف المستشفى، تبلل وجهها بدماء على يديها، دماء ماريا، ابنتها البالغة من العمر 18 سنة. تولول ثم تصمت. تسأل عن زوجها لأنها تريد منه أن «يعد الطرحة وفستان الزفاف الأبيض»، «أريد أن أزف ماريا»، تصرخ والدموع تفر من عينيها. تريد أن تزفها عروسا إلى الجنة.

لا تستوعب الوالدة المصدومة المشهد. لم يخطر ببالها أن ابنتها قد تغير الطريق الذي تسلكه يوميا، وإذ بها تدري أن ابنتها ماريا من بين ضحايا تفجير الشارع العريض الذي هز منطقة حارة حريك أمس. تحمل الوالدة المفجوعة بيدها كيسا أسود أعطته إياها الممرضة ووضعت بداخله أغراض ماريا: حقيبة صغيرة ملونة، وهاتف جوال لم يتوقف رنينه منذ دخولها مستشفى بهمن الواقعة على مقربة من مكان الانفجار، الذي أودى بأربعة قتلى (بينهم ماريا) و48 جريحا.

لا تتوقف والدة ماريا عن تعداد صفات ابنتها. تقول لـ«الشرق الأوسط» بكلمات متقطعة، مفهومة حينا ومشوشة حينا آخر: «ماريا فتاة حيوية، لا تحب الجلوس في البيت وغالبا ما تلتقي أصحابها والأقرباء. كنت أعاتبها وأطلب إليها البقاء في المنزل لفترة أطول، لكنها لم تكن تحب ذلك».

تتابع الأم بحرقة ودموع: «هي ابنتي ورفيقتي وحبيبتي». وبغصة كبيرة، تلوم نفسها على ما حصل لابنتها: «صباح هذا اليوم المشؤوم، دخلت غرفة ماريا وأيقظتها للذهاب إلى الجامعة، حيث تدرس طب التجميل والجراحة».

تتوقف قليلا عن الكلام، بعد أن تسمع صراخ صوت مألوف، هو صوت زوجها المصدوم. تتوجه إليه منتحبة: «ابنتك ماتت، جئت لتفتح لها عيادة، لكنك لم تلحق ذلك».

ينظر الوالد إلى زوجته كما لو أنه لم يفهم شيئا. يلطم على وجهه مصدوما، قبل أن يمشي ببطء شديد وبشكل متعرج حتى يكاد يسقط أرضا. يسارع عدد من الشبان الذين ينتظرون أقرباءهم الجرحى إلى معاونته ليتمكن من الوقوف على رجليه. يقترب من زوجته، يضع يده على وجهها ليلتقط القليل من دماء ابنته. بعدها، تسوء حالته أكثر، يصطحبه فريق الإسعاف إلى المستشفى، يرفض أن يأخذ دواء مهدئا منه ويظل يصرخ وينادي ابنته «ماريا يا ماريا»، حتى يفقد وعيه من شدة صدمته وتأثره.

يحيط بالوالدين أقارب وأصدقاء. يقول أحدهم لـ«الشرق الأوسط» إن ماريا «كانت فتاة طيبة وذكية وتخاف الله»، مشيرا إلى أنه «خلال التفجير السابق الذي استهدف المنطقة نفسها، كانت تمر في الشارع ذاته، لكنها نجت بفعل معجزة إلهية، لتذهب اليوم ضحية تفجير إرهابي جديد». تصغي والدة ماريا إلى كلماته وتتنهد، قبل أن تصرخ: «جهز الورود لنزف ابنتي ماريا»، مضيفة: «كانت تحب الورود الملونة كثيرا».

وكان رواد مواقع التواصل الاجتماعي تناقلوا أمس تعليقا كتبته ماريا على صفحتها على «فيس بوك» في الثاني من الشهر الحالي، بعد ساعات من تفجير حارة حريك الأول، كتبت فيه عبارة باللهجة اللبنانية المحلية بأحرف لاتينية. وجاء فيه: «إنه الانفجار الثالث الذي أنجو منه. لا أعرف إذا كنت سأذهب ضحية الرابع»، مشيرة إلى أنها تشعر بالحزن.

كما تناقل الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي صورة علي بشير، طالب جامعي يبلغ 20 سنة، وهو أحد ضحايا التفجير. وتردد أنه كان يقف قرب منزله في حارة حريك، عندما وقع التفجير في المكان ذاته. شهدت قاعة مستشفى بهمن أمس حركة غير اعتيادية. أهال جاؤوا يبحثون عن أقربائهم ويطمئنون عن أحوالهم. تقول إحدى الممرضات لـ«الشرق الأوسط» إن غالبية الجرحى هم من سكان المنطقة، بينما يوضح مدير المستشفى، علي كريم، أن: «أربعة شهداء وصلوا إلى المستشفى، إضافة إلى 38 جريحا». ويشير إلى أن: «حالة أربعة من الجرحى تطلبت عمليات جراحية، بينما إصابات الباقين متوسطة وطفيفة»، متوقعا مغادرة معظمهم خلال ساعات (أمس).

على جانب مدخل الطوارئ، يجلس شاب عشريني، أصيب بشظايا التفجير، تملأ وجهه الجروح وأصيب أيضا في قدمه. عيناه مجمدتان نحو الأرض ولا ينطق بكلمة. يسأله المارة عن اسمه للاتصال بأهله، لكنه لا يقوى إلا على الصمت. تجلس بقربه ممرضة وتمنع الناس من الاقتراب منه، وتقول: «ليبتعد الجميع عنه. اتصلنا بأهله وأقاربه وهم في الطريق إليه، إنه مصاب بصدمة نفسية». وقبل أن تنتهي من حديثها، تأتي شقيقته مسرعة لتطمئن عليه، وبكلمات غاضبة تقول: «الله ياخد يلي كان السبب، فلتذهب (جبهة النصرة) إلى الجحيم». قصص المصابين تتشابه، فالبعض كان يتوجه إلى منزله بعد انتهائه من العمل، والبعض الآخر كان يتنقل من دكان إلى آخر لشراء حاجاته، هكذا كان المتجمهرون أمام مدخل المستشفى يهمس بعضهم لبعض ويتحدثون عن أحداث التفجير. بينما الجميع منشغلون في باحة المستشفى، يخرج رجل ستيني ويخترق بكاؤه جدار الصمت الحذر. يجثو بركبتيه على الأرض ويقبلها شاكرا الله على سلامة أولاده. يقول لـ«الشرق الأوسط» إنه يكاد يفقد أعصابه مع دوي كل انفجار في الضاحية الجنوبية، مضيفا: «أتيت إلى المستشفى لأطمئن بأن أسماء أولادي ليست بين قائمة الجرحى أو الشهداء. أنا رجل فقير وأعمل سائق سيارة أجرة، وليس لدي القدرة على شراء هواتف جوالة لأبنائي حتى أطمئن عليهم».

ويتابع الرجل الستيني: «عند سماعي خبر التفجير، قصدت منزلي حيث وجدت الدمار والخراب يحيط به، ولم أجد أحدا فيه. وبحكم أن جميع الجرحى موجودون في مستشفى بهمن، توجهت لأتفقدهم، وكاد قلبي يتوقف عن الخفقان، لكن الحمد لله وحده لأنه لم يتخل عني هذه المرة أيضا».