من التاريخ

الحملات الصليبية.. العامل الديني

TT

«يا أولاد الرب.. لقد عاهدتم الله على إبقاء السلام بينكم والحفاظ على حقوق الكنيسة.. فإنه من الحتمي أن تقوموا بحملة سريعة لنصرة إخوانكم (المسيحيين) في المشرق، والذين كما تعلمون تعرضوا للاحتلال من شعوب تركية استولت على الأراضي المسيحية.. هم يقتلون ويأسرون الكثير منا ويدمرون الكنائس ويغتصبون مملكة الرب.. إن الله هو الذي يرجوكم وليس أنا لكي تجندوا أنفسكم لمساعدة إخوانكم المسيحيين لتخليصهم من هذا العرق الشرير.. إنهم يختنون الرجال ويسكبون ماء الختان على مذابح الكنائس أو يدنسون بها مياه التعميد.. ولتكن كنيسة المجد التي تحتلها الأمم القذرة هي التي تحفزكم على ذلك».

بهذه الكلمات التي وردت في بعض كتب التاريخ وقف البابا «أوروبان الثاني Urban II» وهو يرتدي زيه الكنسي العظيم المترف والذي يتناقض شكلا وموضوعا مع بساطة السيد المسيح عليه السلام ليلقي خطابا هو أبعد ما يكون عن تعاليم السيد المسيح عليه السلام، فتهتز مشاعر المستمعين أمام كلمات البابا في مدينة كليرمونت الفرنسية عام 1095، وقد أخذ البابا يصرخ في المجمع الكنسي فيهز مشاعر رجال الدين والدولة والرعية من القلة المتعلمة والغالبية الجاهلة بأمور دينهم أو حتى دنياهم، وبهذه الكلمات أخذ البابا يستثمر المشاعر الدينية للرعية من كل الطبقات ليبدأ مشروعه السياسي الذي دفع الملايين ثمنه على مدار قرابة ثلاثة قرون، فهو المشروع الذي مات فيه الفقير يحلم بالمال، وهلك فيها الغني بحثا عن المجد، ولكن الأخطر من ذلك هو أن الجميع دفعوا ثمنا باهظا لإرضاء إله لم يدع قط للعنف، فلم يحصل المساكين على مملكة الأرض بل وضلوا السبيل لمملكة السماء.

إن الفرائض الأساسية التي قامت عليها الديانة المسيحية من الناحية النظرية لم تشمل استخدام الحروب لأهداف دينية بما فيها نشر الدين، فالأناجيل التي في متناول أيدينا تعكس ذلك بوضوح، كما أن المسيحية لم تحض أبدا على الحرب أو العنف، وهو ما دفع كثيرا من الفلاسفة المسيحيين وعلى رأسهم St. Basil لرفض استخدام العنف أساسا لتسوية أية خلافات، ولكن على الرغم من ذلك فإن هناك من انحاز لتفسيرات يمكن أن تؤدي لاستخدام القوة، وكان من أوائل من سعى لتطوير نظرية استخدام القوة في المسيحية «القديس أوجستين St. Augustine» أسقف كنيسة شمال أفريقيا، وقد كان فكر هذا الرجل أحد الأسباب الأساسية التي دفعت لتبني القوة عنصرا في المعادلة الكنسية، ليس فقط على المستوى الجماعي (الدولة) ولكنه أجازه أيضا لأسباب على المستوى الفردي، حفاظا على الدين المسيحي، وقد تطور هذا الفكر تدريجيا عندما بدأ مفكرون للكنيسة يدخلون مفاهيم الشهادة لكل من يحارب في سبيل الكنيسة ويخلقون برؤيتهم ما كان مناسبا للظروف السياسية للكنيسة والدولة في ذلك الوقت إلى الحد الذي دفع بعض رجال الكنيسة يؤكدون على أن المحرومين كنسيا (أي المستبعدين بأمر من الكنيسة لخروجهم عن الدين)، يحق لهم نيل الشهادة والجنة لو حاربوا الكفار، وقد تطور هذا الفكر مرة أخرى وأصبح من الأسس التي بنى عليها مفهوم «الحرب العادلة Just War»، والذي أخذ اهتماما متصاعدا في القرون الوسطى في أوروبا، وأيا ما كان التطور، فالثابت أن الحرب أصبحت بعد القرن الخامس الميلادي شيئا مقبولا لدى الكنيسة، بل إن استخدامها كأداة لم يعد بعيدا عن الفكر الكنسي؛ ومن ثم أصبحت الدعوة لاستخدامها على مستوى واسع كأداة سياسية مسألة وقت فقط لا غير، وهذه الخطبة كانت البداية التي اندلعت الحملات الصليبية بعدها مباشرة من مناطق كثيرة في غرب أوروبا حمل فيها الجميع الصليب واتخذوه رمزا لهم لتحرير بيت المقدس بوصفه هدفا أسمى، ولاحتلال الأراضي وتوسيع الممالك في أراض لم تكن ملكا لهم.

إن الثابت تاريخيا أن الحملات الصليبية كانت في جوهرها لأهداف واسعة النطاق للكنيسة الكاثوليكية في روما، فلقد ألقينا الضوء خلال الأسابيع الماضية على دور المسيحية في أوروبا وكيف أن البابوات المتتالين سعوا لنشر مفهوم «الأممية المسيحية Christendom» قومية بديلة لغرب أوروبا عن مشروع الدولة الرومانية المندثرة، فكان هذا المفهوم مبنيا على الشعار الشهير: «إله واحد وإمبراطور واحد» وهو الذي تجسد في الملك «شارلمان»، ولكن بموت هذا الرجل بدأت «الدولة الكارولينجية»، التي كان يحكمها تتفتت ومعها الحلم الذي سعت الكنيسة لإقراره لأهداف خاصة بها لتسمح لها بالسيطرة التدريجية بعدما هانت البابوية على الجميع حتى وصلت لمرحلة طرد البابا في صراعات على السلطة داخل الكنيسة ذاتها، وبالتالي فإن الكنيسة كانت في أمس الحاجة لتجديد هذا الحلم مرة أخرى، وكما هو معروف في علم السياسة، فإن أفضل وسيلة لجمع الشعوب على كلمة واحدة هو خلق عدو واحد ومشترك، ولكن مثل هذا العلاج دائما ما يكون مؤقتا وفاشلا والأمثلة التاريخية كثيرة ومتنوعة وتعكس بوضوح أن اختلاق العدو لا يمكن أن يعبر مقياس الزمن والموضوعية، فسرعان ما تدرك النخب السياسية والدينية ومن بعدها عامة الشعب ما يحدث، فترفض الاستمرار في السراب المرفوع لها من قبل حاكميها سواء السياسيين أو الدينيين، وينقلب السحر على الساحر، وهو ما حدث تماما مع مؤسسة الكنيسة في روما.

لقد كانت الكنيسة تتعرض لأزمة حقيقة كما تناولناها من قبل، فالملوك والأمراء بدأوا يسعون مرة أخرى لاستعادة نفوذ سلطانهم الذي بدأت البابوية تنازعهم عليه باعتبارها حامية السلطة الروحية والقابضة على الشأن الإلهي في الأرض، وفي هذا الصراع بدأ الملوك الغربيون يسعون لتجريد البابوية من سلطانها المتوسع والذي كان الكثير يرفضونه بسبب الفساد الذي استشرى في هذه المؤسسة الدينية والذي وصل لحدود التسابق من أجل احتلال سدة الكرسي البابوي، وهو ما دفع أقوى الباباوات ممثلا في «جريجوري السابع» إلى الهروب تحت وطأة الخلافات وبدأ الملوك يتدخلون في اختيارات البابا وهو ما دفع عقلاء الكنيسة للسعي لإدخال «المجمع الانتخابي» لضمان بقاء الاختيار في أيدي السلطة الكنسية، وهو ما لم ينجحوا فيه أيضا في مناسبات كثيرة بسبب تدخلات السلطة الزمنية.

لقد كانت البابوية في روما تمر بأزمة حقيقية، وأصبح السؤال الذي يفرض نفسه على كل البابوات هو كيفية استعادة حلم الأمة الواحدة غير المفتتة لتستطيع الإبقاء على الدور المركزي للكنيسة بعيدا عن بطش الملوك والأمراء؟ كيف يمكن جعل الكنيسة مرة أخرى بؤرة الحلم الجديد ومصدر شرعيته؟ وقد كان الجواب واضحا، اختلاق حرب يكون العدو فيها خارج الملة وإسباغ الصفة الدينية على هذه الحرب بدعاوى تحرير بيت المقدس وحماية مسيحيي المشرق، وهكذا بكل بساطة سلك البابا «أوروبان الثاني» هذا الطريق لتقوية سلطته الدينية، وهكذا اندلعت الحملات الصليبية تداهم العالم الإسلامي تحت ستار الدين، حملات وراء حملات تحمل عملية تطهير عرقي ممنهج.

وأيا كانت أهداف «أوروبان الثاني»، فإن حلمه لم يتحقق في حياته أو حتى بعد مماته، فلم تهنأ البابوية أيضا بأي استقرار، بل إن تاريخ صراعها مع السلطات الزمنية ممثلة في الملوك والأمراء ازداد سوءا، خصوصا بعدما بدأ الملوك يتطاولون على البابوات ويقلصون من سلطان الكنيسة كلما أتيحت لهم الفرصة، فافتعال الحرب لم يعد على البابوية بنفع على المدى القصير أو حتى المتوسط، بل إن البابوية أصبحت جاهزة مع مرور الوقت لعملية إصلاح واسعة النطاق والتي بدأت بشكل مباشر في القرن السادس عشر.