مدينة سان دييغو الأميركية تحتفل بإيقاع الرقص الإسباني الملتهب

«أنا فلاح منكم» بالعربية تعني «فلامينكو» بالإسبانية

TT

لطالما انتظرت مدينة سان دييغو القريبة من الحدود المكسيكية عرضا راقيا من الرقص الإسباني الملتهب والغجر الذين يدقون الأرض بكعوب أحذيتهم، وأخيرا تحققت هذه الأمنية ووصلت فرقة أنطونيو كاناليس الإسبانية الشهيرة من مدريد لإقامة حفلة رقص رائعة على مستوى فني عالمي وستتبعها في العام القادم فرقة باليه إسبانيا القومية.

فن الفلامينكو يعد من أهم التراث الموسيقي في أوروبا وصنفته منظمة اليونيسكو عام 2010 بأنه «إحدى تحف الفن في التراث العالمي»، وعاد الاهتمام به في تسعينات القرن المنصرم بعد خلطه بالموسيقى الراقصة والشبابية مثل الصالصا والجاز والبلوز والروك، وتسمعه أينما كنت في إسبانيا وخصوصا في الجنوب الأندلسي في قرطبة وإشبيلية من المراقص والمقاهي والحانات إلى دار الأوبرا والباليه، كما يلاحظ وجوده في شمال المغرب وخصوصا في تطوان وطنجة.

وحسب الدراسات الموسيقية الإسبانية الحديثة تعود جذور الفلامينكو إلى أيام العرب في الأندلس وظهور مجموعة من المغنين الريفيين المتنقلين أيام الاضطرابات ويسمون الفلاحين الموريسكيين الذين يصدحون بالعربية الممزوجة بالإسبانية ويقلدون تجويد القرآن الكريم على طريقتهم ويستخدمون العود وأبياتا من الشعر أو الزجل الجدي الحزين، ويقول الواحد منهم: «أنا فلاح منكم»، والتي حولها الإسبان في ما بعد إلى «فلامينكو» مثلما حولوا كلمة «وادي الحجارة» إلى «وادالاهارا».

تظهر الجذور العربية لهذا الفن في الغناء من الحنجرة وتأثير العود العربي على الغيتار الإسباني، ويصنف هذا النوع من الغناء تحت عنوان الموسيقى الأندلسية الشعبية الجدية أو «كانته خوندو» بالإسبانية، أي الغناء العميق، بينما يقال للنوع الخفيف الراقص «كانته تشيكو»، أي الغناء الصغير بالإسبانية.

بعد اضطهاد الإمبراطور المغولي وأكبر غازٍ في التاريخ جنكيز خان في القرن الـ13 للغجر في شمال الهند هرب الكثيرون منهم إلى البلاد العربية ورومانيا وإسبانيا وحطوا رحالهم في إشبيلية والقلعة (الكالا) وقادش، وما زالت بعض عائلاتهم تقيم في هذه المدن في جنوب إسبانيا حتى اليوم، وهم من أدخل منذ عام 1425 الإيقاع والرقص وبعض حركات اليد والرجل في الرقص الهندي إلى الفلامينكو واستعملوا الغيتار، فأصبحت الألحان أكثر سرعة وحيوية، كأنك أضفت البهارات والفلفل إلى الطعام.

ومن أشهر أنواع الفلامينكو في العصر الحديث رقصة سفيليانا (من إشبيلية) الجماعية في الحفلات، والمهم في رقص الفلامينكو الذي انتشر وأصبح جزءا من التراث الشعبي منذ عام 1750 كيف يتحكم الراقص بجسمه وعواطفه وكيف يحرك أكتافه وخصره ويطرق الأرض برجليه وحذائه ذي الكعب العالي وكيف يندفع في الدوران. في عام 1915 ألف الموسيقار الإسباني مانويل دو فايا أول باليه للفلامينكو بعنوان «الحب المسحور» (وفيها «رقصة النار» الشهيرة) فرفع المستوى إلى مرتبة الموسيقى الكلاسيكية ودور الأوبرا والمسارح.

رأينا كل هذا التطور في الحفلة التي نظمتها جمعية الموسيقى في لا هويا في عشرة تابلوهات متعددة، فسحرنا لون ثياب الفتيات الأحمر ودوران الراقصات السريع بالاستناد على إصبع القدم على طريقة الباليه المسماة بالفرنسية «بيرويت»، بينما الإيقاع الراقص المندفع الجذاب يصاحب الغناء أحيانا أو يصور قصة قصيرة للقاء العشاق وانتصار الحب. شارك في الحفل ورقصاته التي صممها أنطونيو كاناليس وزملاؤه تحت إشراف المخرج أنخيل روخاس ستة راقصين كان أبرزهم جيسوس (عيسى) كارمونا وكريمه أمايا وسبعة عازفين ومغنين مثل إسماعيل ديلا روزا وباكو كروز ودانييل خورادو بالإضافة إلى خمسة من الفنيين، وكانت السهرة من إنتاج مهرجان الفلامينكو الذي يرعاه المعهد الأندلسي للفلامينكو ووزارة الثقافة الإسبانية.

وصلت الفرقة إلى سان دييغو بعد نجاح عرضها في نيويورك، وتفوق في كلتا المناسبتين الراقص البارع جيسوس كارمونا بطريقته الزاهية التي تخطف الأبصار وكأنها عاصفة قوية من دق كعب الحذاء والتمتع بالصخب والضجيج على إيقاع الموسيقى الملتهبة. يبدو أنه يتمتع بكل الخصال المطلوبة من راقص الفلامينكو الغجري: الجسم الرشيق والحيوية والطاقة المستمرة والروح العالية والتوهج الإيقاعي، وحتى حين يخلي الساحة للآخرين ويصفق لهم أثناء رقصهم يبدو وكأن سرعة تصفيقه تفوق بقية المصفقين. أما زعيم الفرقة أنطونيو كانالس فقد دخل الخمسين من العمر وبان الوهن عليه، فرقصه كان بطيئا ودورانه كان متعبا لكنّ موهبته تبرز في نجاحه في جمع فريق متميز لأداء عرض موفق. كنا ننتظر أن يبدع الراقص الشاب الآخر كارلوس رودريغيز، لكن رقصه لم يكن مثيرا رغم تدريبه الجيد في الرقص الكلاسيكي وإنما كان مقنعا ومنمقا ودقيقا.

الراقصة الوحيدة التي تركت أثرها على الجمهور كانت كريمه أمايا (حفيدة الراقصة الغجرية الأسطورية كارمن أمايا)، التي ختمت الحفل برقصة «سيغيريا»، وهي رقصة من النوع الغجري تلحظ فيها ألحان الشرق الأصلية البدائية الصافية، فهي من النوع الأندلسي الشعبي الجدي، وتمكنت بقامتها الفارعة وثوبها الجميل وتعابير وجهها المقطبة بحيث بدت أكبر من سنها الـ29، وضربها القوي للأرض بحذائها اللامع، وكيف كانت تلف وتدور بسرعة فائقة من انتزاع التصفيق الحار المستمر.

الموسيقى التي صاحبت الرقص اعتمدت على الموسيقى الشعبية والفلامينكو الجديد الذي طوره في العقود الماضية كبار الفنانين الإسبان، وخصوصا عازف الغيتار الشهير باكو دي لوسيا الذي توفي منذ شهرين، وكامارون ديلا ايسا مغني الفلامينكو الغجري المتميز الذي غاب عنا في الثمانينات من القرن المنصرم، وكذلك زميله توماتيتو الذي ما زال على قيد الحياة.

دي لوسيا له فضل كبير في إحياء الفلامينكو في أواخر القرن العشرين، وله ألبومات شهيرة مثل «زرياب»، وهو أبو الحسن علي بن نافع موسيقار البلاط الأموي في الأندلس في القرن التاسع، وكذلك «الريح الشرقية» (سيروكو) التي يعتمد إيقاعها على أوزان شعرية تتناغم مع الموسيقى العربية والإسبانية.

أجمل ما في حفلة الفلامينكو التي تعتمد على الغيتار والرقص والغناء أنها كانت مثل حفلة عائلية، فالراقصون والعازفون والمغنون والمصفقون كانوا يحاولون انتزاع الإعجاب بعضهم من بعض ففاضت المشاعر وانتشرت العدوى بين الجمهور والمتفرجين الذين كانوا يصيحون أحيانا بالإسبانية: «أوليه أوليه»، ويقال إنها تعني: «الله الله»، حين بدأ استعمالها للتعبير عن الإعجاب في إسبانيا.