من التاريخ: حطين وعبقرية القائد

TT

تناولنا في الأسبوع الماضي ظهور صلاح الدين على الساحة السياسية المصرية وكيف أصبح هو القابض على أمور الدولة بحلول عام 1171 ميلاديا بعدما تدخل القدر ليزيح عن طريقه السلطان نور الدين محمود ومن قبله «العاضد» آخر الخلفاء الفاطميين ليفتح المجال أمامه من أجل السيطرة الفعلية على البلاد، وقد تابعنا كيف استطاع هذا الشاب أن يبني لنفسه قاعدة سياسية قوية في مصر سمحت له خلال ثلاث سنوات بوضع قاعدة اقتصادية وعسكرية تسمح له، ليس فقط بوقف الحملات الصليبية التي بدأت تطال مصر منذ نهاية الحكم الفاطمي وكانت أخراها محاولة الفرنسيين الاستيلاء على ميناء دمياط بمائتي مركب التي تصدى لها صلاح الدين الأيوبي بجيشه القوي.

أما على الصعيد الإقليمي، فلقد كانت الممالك الصليبية تسيطر على الخط الساحلي للشام بالأساس وبعض المدن الداخلية، وذلك في محاولة من جانبها لحماية نفسها من خلال ضمان خطوط الإمداد مع أوروبا، وطالما كانت مملكة القدس في أيديهم فإن ذلك كان يمثل وقودا شرعيا كافيا لاستمرار آلة الاستيطان الغربي، وعلى الرغم مما يبدو عليه هذا المشروع الاستيطاني من انسجام، فإن حقيقة الأمر كانت تعكس أن هذه الممالك الصليبية لم تكن على وفاق فيما بينها، وقد زاد من مشاكل الوجود الصليبي حقيقة أساسية، وهي أن الانسجام كان غائبا بين هذه الممالك من ناحية والدولة البيزنطية من ناحية أخرى، فالمجهود الحربي لم يتوحد رغم المصالح المشتركة بين البيزنطيين الأرثوذكس والصليبيين الكاثوليك، وهنا تجدر الإشارة إلى أن العناية الإلهية كانت قد كفلت للجيش الإسلامي ميزة نسبية كبيرة، حيث شهد عام 1176 ميلاديا قيام الجيش السلجوقي بقيادة «قلج أرسلان» الثاني بهزيمة القوات البيزنطية هزيمة نكراء في معركة «ميريوكيفالون» التي قضت تماما على أي فرصة لعودة الأطماع البيزنطية في آسيا الصغرى، وكان من نتيجة ذلك قطع الطريق البري الذي كانت تسير منه الحملات الصليبية إلى الشام، كما تم قطع خطوط الإمداد الممتدة إلى القلب العربي.

لقد أدرك صلاح الدين أن الظروف باتت مناسبة لفتح الصفحة العسكرية مع الصليبيين، فبدأ يحرك جيوشه على ساحة الشام فدانت أجزاء كبيرة منها، وسقطت المدينة تلو الأخرى، فأصبح الطريق مفتوحا لبدء الصراع المفتوح مع الصليبيين، ولكن هذه الحرب المفتوحة كانت تحتاج لبعض الوقت والتجهيز اللوجيستي ومفاوضات ودبلوماسيات مع بعض هذه الممالك لتحسين ميزان القوى لصالح المسلمين، وهو ما دفعه في عام 1180 للموافقة على هدنة مع الممالك الصليبية من أجل التقاط الأنفاس وإعداد العدة لهذه الحرب من خلال معركة كبيرة وحاسمة يستطيع خلالها كسرهم بغير رجعة.

لقد كانت الصراعات بين الصليبيين كبيرة للغاية، فهم لم يكونوا في أي وقت من الأوقات قوة موحدة الفكر أو متجانسة التوجه، فلقد دبت الخلافات بشدة بينهم على من سيخلف ملك القدس وعندما استقر الرأي على «جيي دي لوزين» وكان غريمه على العرش هو «رينو دي شاتيون» حاقدا عليه، ورغم ذلك فإن الأخير تم تنصيبه أميرا على مدينة الكرك، وهي المدينة التي كانت تقع على طريق الحج إلى شبه الجزيرة العربية، ولم يستطع هذا المتطرف، المريض نفسيا بحب سفك الدماء، أن يحترم اتفاقية الهدنة مع صلاح الدين فقام بالاعتداء على إحدى القوافل الإسلامية وقتل من بها واستولى على أموالها، وهو ما فتح المجال أمام الحرب بين صلاح الدين والممالك الصليبية، فبمجرد أن نقض «رينو» الصليبي الهدنة وأغار على المسلمين العزل قرر صلاح الدين أن الوقت قد حان لبدء التحرك العسكري المطلوب بعد سبع سنوات، فخرج بجيشه إلى مدينة طبرية في محاولة منه لسحب جيش صليبي مجمع لمعركة مفتوحة تلعب فيها الطبيعة لصالحه، وقد جمع الملك «جيي» قواده للتباحث وأقر الخطة العسكرية للاشتباك، وقد كانت الحصافة العسكرية تفرض عليه توخي الحذر، خاصة أنهم عقدوا العزم على جمع جيش قوي للدخول في معركة فاصلة حاسمة أمام قوة مصر الصاعدة، وقد اقترح «رينو» محقا ضرورة عدم خروج هذا الجيش إلى الصحراء، مشيرا إلى إمكانية العمل على المناورة مع صلاح الدين لتحسين شروط المعركة القادمة، ولكن العجرفة والتعالي كانا أسوأ عدوين للصليبيين، فقد قرروا أن يواجهوا المسلمين بالصليب الذي ادعوا أنه الصليب الذي صلب عليه السيد المسيح، مؤمنين بنصر من عند إله كانوا أبعد ما يكونون عنه، فتحرك الجيش الصليبي بالفعل صوب جيش صلاح الدين الذي لجأ لمحاولة تشتيت تركيزه من خلال المناوشة ببعض كتائب الخيل لخلق حالة من الفوضى بداخله لإبعاده عن هدفه الأساسي، أي إنه وضع خطة إشغال للعدو كانت بكل المقاييس عبقرية، بالإضافة إلى محاولة استدراجه نحو تكتيكات جانبية بهدف تعطيشه لاستهلاك المياه المخزنة معه، وعند مرحلة محددة توقف الجيش الصليبي ليواجه جيش صلاح الدين في حطين تماما كما كان الرجل يأمل.

كان صلاح الدين قد اختار موقعه بعناية بعدما وضع نفسه بينه وبين آبار المياه التي كان الجيش الصليبي متعطشا إليها، وفي تحرك عسكري فذ استمر المسلمون في رمي النبال على الجيش الصليبي طوال الليل ليحولوا بينه وبين النوم، كذلك لجأ الرجل لحيلة ذكية أخرى وهي حرق أغصان الشجر وكل ما يمكن أن يحترق ووضعه صوب الريح التي نقلت الدخان إلى معسكر الصليبيين، فظلوا يستنشقون الدخان طوال الليل مع خيولهم، في حرب نفسية عبقرية.

وبالفعل، بدأت المعركة وكان لجيش صلاح الدين التفوق النفسي على الجيش الصليبي، حيث التقى الجيشان في معركة حامية الوطيس، لم يستطع الصليبيون كسر صفوف المسلمين فاضطروا إلى التراجع للخلف لأعلى تبتين، ورغم الجهود التي قام بها «رينو» لكسر الصفوف الإسلامية بفرسانه فإنه فشل في ذلك تماما، وانتهت المعركة بدمار شبه كامل للجيش الصليبي تحت وطأة العطش والانكسار، ولم يفلت من هذا الجيش إلا قلة قليلة استطاعت الهرب بالخيل، ومع ذلك فإن صلاح الدين كان سياسيا بارعا، فتعامل مع ملك بيت المقدس المأسور بدبلوماسية شديدة كما لو كان ضيفا عزيزا، ولكنه نكل بالفرسان الذين ثبت ارتكابهم الجرائم ضد المسلمين، كما قام بقتل «رينو» قصاصا لما قام به من قتل مسلمين عزل وكسر الهدنة، وقد كان صلاح الدين رحيما بالعدو مما أكسبه بعض التعاطف، وفتح المجال أمام المسلمين للاستيلاء السريع علي المدن الأخرى، فلو أنه قام بالتنكيل بهم لما استسلمت المدن الواحدة تلو الأخرى لجيوشه.

لقد كانت معركة حطين فاصلة في تاريخ الحروب الصليبية، فلقد كسرت هذه الحرب أكبر تكتل للصليبيين حتى ذلك التاريخ، كما أنها أضاعت منهم مصدر الشرعية الأساسي لهذا المشروع وهو بيت المقدس، فهذا الرمز المهم للمسيحية التفتت الأطماع السياسية والاقتصادية للصليبيين حوله، ومن ثم عندما سقطت مملكة بيت المقدس انكسرت شرعية الحملات الصليبية، فهي آخر معركة شاملة ذات أثر قام بها الجيش الصليبي. أما من الناحية الاستراتيجية، فلقد غيرت هذه الحرب موازين القوى، فلقد بدأت مصر تضع يدها على الشام فتساقطت المدن الواحدة تلو الأخرى في الساحل والداخل، وأصبح الحكم الصليبي في دوائر جغرافية محاصرة ومغلقة وقليلة الترابط، وهو ما أضعف قوتها العسكرية، حتى عندما جاءت الحملة الصليبية الثالثة ورغم هزيمة جيش صلاح الدين في بعض المعارك المحدودة، فإن الأمر كان قد حسم استراتيجيا، لذلك لم تحقق هذه الحملة الكثير فعقدت الهدنة بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد، والتقدير أن من أهم ما مثلته حطين هي أنها كسرت العزيمة الصليبية على مواصلة الصراع فأصبح سقوط هذا المشروع الاستعماري مسألة وقت لا غير، كما سنرى.