كيف وظّفت «سي إن إن» اختفاء الطائرة الماليزية لصالحها؟

حين تكون المأساة مادة ترويج

رئيس محطة «سي إن إن» أمام مبناها
TT

مأساة الطائرة الماليزية «370 MH» خطفت الأنظار عن أحداث مهمّة أخرى سبقتها أو لا تزال جارية. القنوات التلفزيونية الإخبارية الأميركية تصرّفت، من حيث المبدأ، مع ما يمليه واجب الحرفة الإعلامية المهنية: في الثامن من الشهر الماضي (مارس/ آذار) أقلعت طائرة «بوينغ 777» تحمل الرقم 370 من مطار كوالالمبور في طريقها المعتاد إلى العاصمة الصينية بيكينغ. على متنها طاقم مؤلف من 12 فردا و227 راكبا من 14 دولة. موعد الإقلاع كان في الساعة 7:24. بعد أقل من ساعة انقطع الاتصال.

وكما بات معروفا، انطلقت جهود مشتركة أميركية وآسيوية للبحث عن الطائرة المفقودة. تكاليف البحث ما بين الثامن من مارس وحتى الرابع والعشرين منه بلغت ثلاثة ملايين و200 مليون دولار في حين بلغت الفاتورة الماليزية 380 ألف دولار يوميا والأسترالية 550 ألف دولار يوميا.

الحادثة كانت من الأهمية بحيث انصرفت لها محطات التلفزيون الإخبارية في الولايات المتحدة انصرافا مبهرا. في الأيام الأولى شاركت الحادثة أخبار التطوّرات الواقعة في أوكرانيا، وتلك الخارجة من جحيم الحرب السورية. ومع أن تلك الحادثة بقيت عائمة على أثير الأحداث في كل المحطّات الإخبارية الأميركية، إلا أن محطة «CNN» اختارت أن تبديها على باقي التطوّرات الإقليمية والعالمية وتتابعها بانصراف أثار دهشة المراقبين.

ربما ليس على نطاق «CNN» العالمية، حيث الأخبار بقيت، إلى حد كبير، مختلطة بين هموم وعناوين الأحداث كافة، لكن في الولايات المتحدة انبرت المحطّة بين كل المحطات المنافسة مثل «Fox News» و«MSNBC» و«CNBC» بتخصيص معظم ساعاتها الإخبارية لتغطية حادثة الطائرة، علما بأن الأنباء لم تحمل جديدا حولها منذ سقوط تلك الطائرة - اللغز.

وعلى عكس المتوقّع تماما سجّلت المحطة تقدّما ملحوظا بين نظرائها بالنسبة لعدد المشاهدين الذين تابعوا الحادثة على شاشاتها. صحيح أن المحطة لم تقفز في معدلات المشاهدة لكي تتصدّر المحطات الأخرى، لكنها أنجزت نسبة مشاهدة عالية نقلتها من مراكز متأخرة تناوبت عليها إلى المركز الثاني مباشرة بعد «Fox News»، كما يتضح بعد عشرة أيام من وقوع الحادثة. مع نهاية الشهر الماضي، كانت «سي إن إن» لا تزال في الموقع الثاني متقدّمة على محطتي «MSNBC» و«CNBC» وكلها، بالإضافة إلى محطة «فوكس» الإخبارية وإلى محطات إخبارية أخرى ذات انتشار محدود، مثل «BBC» و«RT» أو ذات انتشار محدود جدا، مثل «الجزيرة أميركا»، تداولت حادثة الطائرة على أساس أنه واحد من الأحداث المهمّة وليس الحدث الأهم.

أسئلة مطروحة هذا الفوز وإعادة تثبيت المحطة الأميركية المعروفة في قمّة جدول المشاهدين الأميركيين كان نتيجة اختيار جريء، لكن القلة هي التي تعتقد أنه كان اختيارا صائبا بالضرورة. الرئيس المعين منذ نحو عام لشركة «سي إن إن» جف زوكر وجد في حادثة الطائرة وغموض ما حدث لها مادة دسمة تستحق أن تكون الأكثر بروزا بين كل الأخبار الواردة من خارج الحدود. من زيارة أوباما لأوروبا ثم للمملكة العربية السعودية ومن جولات كيري للشرق الأوسط أو ما يحدث في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، بل فيما تنطوي عليه جبهات القتال الساخنة في سوريا.

ما ميّز مأساة الطائرة عن سواها هو ما استندت إليه المحطة في قرارها تخصيص ما يوازي ثلثي تغطيتها لها (في مقابل تخصيص المحطات الأخرى نحو الثلث في البداية ثم الربع سريعا من بعد أو ما دون ذلك) وهو عامل اللغز. حادثة الطائرة لم تكن أكبر حجما من الأحداث المهمّة حول العالم، لكنها أكثر إثارة. ومعالجة المحطة لها كانت قراءة الأسئلة الكثيرة التي أثيرت حولها والتي كانت تتزايد باستمرار من دون أن تكون هناك إجابات عن أي منها.

الأسئلة انطلقت من عمّا قد يكون سبب سقوطها إلى عمّن تكون الجهة التي قامت بها ومن أين سقطت تماما إلى لماذا لم تنجح الدول المشتركة في عمليات البحث تحديد ذلك المكان أو اكتشاف الصندوق الأسود بعد. وما بين كل زاوية من هذه الزوايا الكثير جدّا من الأسئلة التي اشتغل عليها المراسلون يوما بعد يوم.

هذا الاشتغال حوّل المحطّة إلى ما يشبه شبكة اجتماعية تستقبل كل ما له علاقة بالموضوع الواحد وتبرزه أو تنطلق منه لسبر غور ما قد يبدو جديدا.

لكن المشكلة التي واجهتها المحطّة هي أن المثار، بغياب الحقائق، يدخل في علم النظريات ولا يشكل أنباء موثوقة. من ناحية أخرى، برزت أيضا مشكلة أنه لم يكن هناك ما يكفي من الأحداث لكي يتم ترميم ساعات البث المصروفة به. بكلمات أخرى، لم يكن هناك ما يكفي من الأخبار الجديدة ما يتكفّل بانتقال المتابعة من حيز إلى آخر.

المتابع للمحطّة في الشهر الماضي، وحتى مطلع هذا الأسبوع، لاحظ كيف أن المهارة تمثّلت بتعويض غياب الأحداث عن طريق بث الرسائل التلفزيونية من عواصم عدّة كما من مواقع بحث طائرة أو عائمة.

في الخلاصة، ما قامت به المحطة كان عملا صحافيا مهنيا صحيحا، لكن فيما يتعلق بموضوع واحد. الموضوع الذي جعلته مثار اهتمام المشاهدين الذين ربما ملّوا من تلك السياسية أو سئموا من الأنباء التي تتحدّث عن مخاطر الحروب أو المزيد منها. «سي إن إن» بذلك وجدت ثغرة لكي توظف مأساة الطائرة «MH 370» لخدمتها، لكن الجدال لا يزال قائما حول ما إذا كانت خدمت نفسها على المدى البعيد.

أول الأسئلة المطروحة هنا هو: إلى أي مدى يمكن لـ«سي إن إن» الاحتفاء بحدث واحد لتعزيز انتشارها؟ وهل تحويل الحدث المحدد إلى نوع من الترفيه الدائم والأخبار الحاسمة إلى مواضيع اجتماعية هو الحل الوحيد المتاح أمامها لعودتها إلى المكانة التي افتقدتها منذ بضع سنوات؟ والأهم: هل ستحافظ على مكانتها المكتسبة عندما ينجلي الأمر وتفتر الحماسة وتجد المحطّة نفسها بحاجة إلى العودة إلى المحيط الكامل من الأحداث؟