الصعب والسهل

محمد رضا

TT

التفسير الصعب لبعض اللوحات، كتلك المعروفة باسم «البوابة» التي وضعها هانز هوفمان سنة 1959 المؤلفة من أرضية خضراء وصفراء بتدرجات مختلفة مع مربعات حمراء وزرقاء وصفراء ورمادية، يستدعي من بعض المهتمين وعاشقي الفن عموما، الوقوف أمامها متسائلا، بل متحيرا: ما المقصود بها؟ وما علاقتها بالعنوان؟ لماذا اختار فنانها الألوان التي اختار ولم يختر ألوانا أخرى؟ وما معنى أن المربعات ليست ذات حجم واحد أو لماذا المربع الرمادي إلى اليمين والأزرق إلى اليسار، ولماذا الأحمر في منتصف اللوحة؟

إنها ليست لوحة لمكان أو لإنسان، بل هي تعبير حداثي عن رؤية تبقى في جذورها ملك فنانها. ولا يزال من المثير للاهتمام (وربما لبعض الطرافة) مشاهدة أناس يتحلقون حولها أو حول أي رسومات لا تكشف عن أسرارها، محاولين فك طلاسمها. المشهد الأكثر تردادا هو مشهد أحد الناظرين وقد أمسك بذقنه وأمعن النظر في ما يراه من دون حراك. ما علاقة الذقن بالتقدير أو بالقدرة على الفهم، أو لماذا نضع أصبعا أو أصبعين على الصدغ حين نفكر؟

ليس من الضروري أن نضع أصبعا على الذقن أو على الصدغ لكي نفهم لوحة أو لننتقدها أو ننتقد مسرحية أو فيلما سينمائيا. لكن كيف للناقد الفني كشف ما لا يستطيع الهاوي أو المعجب أو المتابع غير الناقد أو غير المتخصص أن يكشفه؟ المسألة ليست حكرا على اللوحات وفن الرسم.. يستطيع من لديه إلمام بالموسيقى الكلاسيكية أن يلحظ أنه قد يستمتع بموتزار أو بيتهوفن أو تشايكوفسكي أكثر من استمتاعه بفوتي أو مولر أو شتراوس. الثلاثة المذكورون آنفا هم أكثر سلاسة من الثلاثة المذكورين لاحقا. وإن كان هذا لا يعني قيمة محددة لأي طرف. المقصود من المقارنة هنا هو أن الشكل الماثل أو الموسيقى التي نستمع إليها تستمد قيمتها من مصادر مختلفة، لكن السلاسة ليست شرطا. وولفغانغ موتزار ليس أفضل من شتراوس أو مولر لأنه سلس، وليس هوفمان أفضل من الفنان (الفرنسي) تيودور روسيو لأنه لا يُفهم بسهولة. الناقد عليه هنا أن يدرس المناهج ويفحص مدارس الفن وأنواعه، أحب لونا معينا منها أم لا. الشكل الخارجي لا علاقة له بما إذا كان الفنان أفضل من الآخر، بل مجمل اللوحة بكل شروطها ومضامينها. وربما الأمر أكثر وضوحا في السينما لانتشارها بين فئات مختلفة. في الماضي كان العديد من المشاهدين وعشاق السينما يأنفون من أفلام جون فورد أو ألان دوان أو سامويل فولر أو حتى ألفرد هيتشكوك، لأنها كانت - بالنسبة لمفهومهم - أفلاما سهلة وذات نوعيات محددة. في المقابل، كان آخرون يعتبرون أن أفلام إنغمار برغمن وأندريه تاركوفسكي وجان - لوك غودار، هي مجرد أفلام معقدة التركيب (بل ربما اتهمت بأنها برجوازية رغم أن غودار يساري محض) لأنها لا تتواصل مع الجمهور السائد وتعكس همومه.. هنا ينكشف للمتابع كم أن الفريقين كانا على خطأ: لا الفيلم الصعب جيد لأنه صعب، ولا الفيلم الهين (أو الترفيهي) أفضل لأنه سهل القبول. كلاهما - حين يكون جيدا - هو ما يشكل القيمة الفنية الضرورية للفن السينمائي بصرف النظر عن اختيار الشكل أو اختيار سبيل التعبير والموضوع.