الأمير سلطان: السعودية صوت سلام واستقرار بحكم دورها المركزي في الشؤون الدولية

اعترف الإسلام بحضارات شبه الجزيرة العربية العظيمة واحترم الديانات التي سبقته بنفس السياق الذي عمّق فيه القيم العربية النبيلة

الأمير سلطان بن سلمان لدى إلقائه كلمته في افتتاح مؤتمر «الجزيرة العربية الخضراء» بجامعة أكسفورد (تصوير: جيمس حنا)
TT

احتضنت جامعة أكسفورد في الثاني من أبريل (نيسان) الحالي، مؤتمر «الجزيرة العربية الخضراء»، الذي جمع الكثير من علماء الآثار والبيئة من المملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية وعدد من دول العالم الأخرى، بهدف استكشاف العلاقة بين التاريخ البشري والتغير المناخي في الجزيرة العربية.

وشارك الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار في المؤتمر، حيث ألقى كلمة مهمة في الجلسة الافتتاحية، استهلها بتوجيه الشكر والتقدير إلى الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا أمير ويلز، الذي شارك بكلمة خاصة في افتتاح المؤتمر، أبدى خلالها اهتماما خاصا به ودعما كبيرا له.

كما قدر الأمير سلطان عاليا، جامعة أكسفورد لتعاونها القيم مع الهيئة العامة للسياحة والآثار في المملكة العربية السعودية، ووجه الشكر أيضا، إلى البروفسور مايكل بتراقليا، منسق المؤتمر ورئيس فريق جامعة أكسفورد المشارك ضمن الفريق السعودي الدولي لمشروع «الجزيرة العربية الخضراء»، ومساعديه، وفريق الهيئة العامة للسياحة والآثار بقيادة نائب رئيس الهيئة للآثار والمتاحف، د. علي الغبان، لجهودهم الدؤوبة في تنظيم المؤتمر والدعوة، متمما للقاءات الدورية التي تعقد في السعودية للإعلان عن نتائج المواسم المختلفة لفرق المشروع الفرعية.

وتحدث الأمير سلطان في كلمته المهمة أمام المؤتمرين، عن العمق الحضاري للجزيرة العربية منذ فترة ما قبل التاريخ، وتأثير التغيرات المناخية في أرض الجزيرة العربية التي كانت يوما مليئة بالبحيرات والبساتين والأنهار، ولم تكن مفرغة من الحضارات.

وكان المؤتمر قد حدد محورين للنقاش خلال اليومين اللذين استغرقهما، هما: الآثار والتراث الثقافي في معرفة التغيرات المناخية الماضية وتأثيرها، والقضايا ذات الاهتمام المشترك بين المملكتين.

وفيما يلي ابرز ما جاء في كلمة الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز:

يشكل مشروع «الجزيرة العربية الخضراء»، الذي تعمل عليه الهيئة العامة للسياحة والآثار من خلال فرق علمية سعودية تساندها فرق من علماء الآثار من مراكز بحثية مرموقة عالميا، عنصرا مهما في مشروع أكبر هو مشروع «الملك عبد الله للعناية بالتراث الحضاري» الذي صدرت موافقة مجلس الوزراء السعودي الموقر عليه منذ أسابيع قليلة، والهادف لإعادة الاعتبار للآثار والتراث الوطني، ودراستهما وفهمهما وربط المواطنين بهما، بوصفهما صفحات مشرقة لتاريخنا المشرق والذي توجه شروق شمس الإسلام فيه وفي أرضه متنزل الكتاب ومنها مبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى أرضها الحرمان الشريفان، وهو ما يمثل أهم قيمة يتمسك بها مواطنو هذه البلاد، ويفخر بها سكان الجزيرة العربية منذ القدم، وكذلك العناية بمواقع الآثار وشواهد الحضارات السابقة للإسلام التي عقبها الإسلام وأظهر عليها، ولم يهمشها أو يهدمها، بل احترمها وأبقاها ليستمر الفهم وتتصل العبرة، وما تلا ذلك من شواهد التاريخ الإسلامي في العصور المتتابعة وصولا إلى التاريخ الحديث الذي تحفظ لنا آثاره ومواقع التراث العمراني المنتشرة في كل شبر من المملكة حكاية إسهام أبناء المملكة من دون استثناء تحت قيادة الملك عبد العزيز في بناء أعظم وحدة حصلت في العصر الحديث، وتقريب هذا التسلسل التاريخي العظيم إلى أذهان المواطنين وقلوبهم، وبالأخص فئة الشباب، للرفع من اعتزازهم بتاريخه وتهيئتهم لإكمال مسيرة التقدم الحضاري التي دائما يملكها إنسان الجزيرة العربية، وكان عليها آباؤهم في المملكة العربية السعودية المحبون لبلادهم في كل حالاتها، ولتبقى الآثار مكونا أساسا ضمن هويتنا الوطنية.

وما كان لاجتماع «الجزيرة العربية الخضراء» أن يتحقق، ولا وصولنا إلى هذه المرحلة من الفهم للحضارات التي مرت على الجزيرة العربية، والتوسع في بعثات التنقيب، ولا للعناية الكبيرة لمواقع التاريخ الإسلامي وكل ما يرتبط بالتراث الوطني.. ما كان لذلك جميعه أن يتحقق من دون توفيق الله ثم الدعم الكبير الذي نجده من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي يعد الملهم الأول لجهود العناية بالتراث الوطني، والموجه الدائم باستمرار دراسة التراث بشكل أكبر والعناية بمواقعه، لإدراكه - أيده الله - أن هذه البلاد ليست طارئة على التاريخ، وأن ثقلها على المستويات الإسلامية والاقتصادية والسياسية، وتميز مواطنيها في شتى المجالات، ليس حادثا جديدا على هذه المنطقة، بل لا بد لشواهد الآثار أن تثبت تفوق إنسان الجزيرة العربية عبر العصور، وذلك ما تثبته الدراسات المستقلة وتؤكده النتائج العلمية المدققة كل يوم.

هناك محاولة فهم الترابط بين المكونات الأساس التي تعرف بها المملكة العربية السعودية عالميا، إذ إنها مهد الإسلام والقوة الاقتصادية التي جعلتها ضمن أعظم عشرين اقتصادا عالميا، وهي الثقل السياسي في المنطقة، غير أن فهم هذه الأبعاد ومنطلقها، وأسباب استمرارها، يرتبط بمعرفة الجذور التاريخية والتراثية لهذا المجتمع من خلال استقراء الشواهد الأثرية الباقية، ليتضح لنا أن هذه السمات لم تبرز من فراغ، ولم تطرأ مؤخرا، بل لكل منها جذوره التي تجعل منه أمرا متوقعا، وتساعد على إدراك الترابط العميق في ما بينها. وباختصار، لكي نفهم جميع سمات شبه الجزيرة العربية، يجب علينا الابتداء من تاريخها العريق.

* المكون الإسلامي لنبدأ أولا بالمكون الأهم للمملكة، ونقطة الاعتزاز الأكبر، وهو البعد الإسلامي؛ إذ يمثل الإسلام المحور الأساس الذي قامت عليه بلادنا، والذي حصل حوله التوافق لقيام الدولة الحديثة، والأساس الذي تستمر الدولة قائمة به، وهو الدين الذي نزل في هذه البقعة من الجزيرة العربية، لينتشر منها إلى العالم، متخطيا مناطق استوطنتها حضارات أخرى، ليصبح اليوم واحدا من أسرع الأديان نموا، وقدرة على التعايش عبر العصور وبمرور الأزمنة والمتغيرات الحياتية؛ لما يتسم به من مرونة وشمولية وضعها الخالق سبحانه في الدين الخاتم للأديان والباقي إلى قيام الساعة.

وعلى الرغم من أن القيم الإسلامية لصيقة بنا، ونعيشها في حياتنا باعتزاز، فإن علينا التنبه إلى أن الإسلام لم يأت من فراغ، بل قامت أسسه ومبادئه على قيم عالية تتشارك في جوهرها مع الحضارات الأخر التي في أصلها تنبني على التوحيد ومعالي الأخلاق مع تتميمها، وهو ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الشريف: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فاكتملت منظومة القيم وتهذبت بالإسلام الخالد، وازدهرت في ثنايا مجتمع متنوع ثقافيا، مما يوحي بشكل صريح بوجود سابق لقيم أخلاقية. وبالتالي، جاء ظهور الإسلام على أناس تمتعوا بنظام من القيم والأخلاق، كما اعترف الإسلام بحضارات شبه الجزيرة العربية العظيمة واحترم الديانات التي سبقته بنفس السياق الذي عمّق فيه القيم العربية النبيلة الموجودة.

ونحن المسلمين نؤمن أنه لكي يكون المرء صحيح الإسلام، يتوجب عليه الإيمان بجميع الرسل والأنبياء عبر العصور - مثل إبراهيم وموسى وعيسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، إذ يقول الله تعالى في كتابه العزيز: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.

ولقد بزغ الإسلام في وقت فائق الأهمية، وفي مكان حافل بالأهمية هو مكة المكرمة التي كانت تمثل قوة اقتصادية فريدة ومركزا روحيا وثقافيا في شبه الجزيرة العربية، حيث تكونت أهميتها لوجود الكعبة المشرفة التي قام النبي إبراهيم - عليه السلام - ببنائها قبيل ما يقرب من 24 قرنا قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - لتصبح مقصد الحجاج وملتقى لقوافل التجارة جراء ذلك، ولقد خلّد القرآن الكريم قصة إبراهيم - عليه السلام - كما جاءت في سورة «إبراهيم»: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون .

ولقد أسهمت مواسم الحج منذ ذلك الوقت في ترسيخ مكانة مكة كمركز ثقافي واقتصادي في قلب خطوط التجارة وجموع الحجيج الذين يفدون لمكة المكرمة ويخرجون منها.

* المكون الاقتصادي مثلت شبه الجزيرة العربية منذ الأزمان الغابرة موقعا جغرافيا استراتيجيا من الناحية الاقتصادية لكونها دائما في صلب محاور الحضارات والنشاط الاقتصادي، وأن وفرة الكنوز والأدوات الأثرية التي نعثر عليها في عملياتنا الاستكشافية حاليا، كما شاهدتم، ضمن معرض «طرق شبه الجزيرة العربية» الذي يجوب حاليا بلاد العالم، ما هو إلا نتيجة لموقع شبه الجزيرة العربية الاستراتيجي في قلب الحضارات والنظم الاقتصادية، حيث جرى نقل السلع والبضائع والمواد الأولية على طرق التجارة آنذاك كما هي حالة النفط حاليا. إن الاكتشافات المذهلة التي حصلت في قطاعات الفنون والنحت والمجوهرات والمنشآت تظهر وجود مستوى راق من الصناعات الحرفية التي تؤكد وفرة الثروات على نطاق واسع.

لذا، ففي وسع المرء أن يقول إن شبه الجزيرة العربية كانت غنية لحقب طويلة قبيل اكتشاف النفط، وهذا يؤكد بشكل واضح أننا شعب شبه الجزيرة العربية لسنا «حديثي نعمة».

إن ازدهار هذه الأنظمة الاقتصادية التي قامت على التجارة وطرق القوافل لم يكن ممكن التحقيق من دون سكانها، وأحفاد تلك الشعوب هم مواطنو المملكة العربية السعودية اليوم الذين يعيشون مرحلة التحديث ويوظفون الثروة لتحقيق التطور، إنهم بحق أحفاد أولئك الذين مارسوا التجارة مع القوافل الوافدة من كل حدب وصوب، ومنحوها الحماية على مدى تاريخ شبه الجزيرة العربية، مع عزمهم وتوثبهم وانفتاحهم لبناء حضارة عظيمة نرى شواهدها اليوم في الدولة السعودية الحديثة.

* المكون السياسي ـ الاجتماعي تقف المملكة العربية السعودية على المسرح الدولي أيضا لتكون صوت السلام والاستقرار بحكم أنها تلعب دورا مركزيا في الشؤون الدولية مع تحمل مسؤولياتها الإنسانية بكل ثبات وإصرار. وما المبادرات التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز - مثل مبادرة حوار الأديان وحوار الحضارات التي لم تأت من فراغ - إلا شواهد على هذا الدور العالمي. فنحن ورثة تاريخ طويل من التفاعل بين الحضارات والتبادل الثقافي، وهذا يكسبنا في شبه الجزيرة العربية القدرة والإمكانية كي نمارس القيادة، لذا فإن هناك حاجة للحوار لتحقيق التفاهم المتبادل والسلام وتأمين مستقبل الإنسانية، وأود الاقتباس من القرآن، حيث يقول الله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم .

إننا عازمون على السعي لتحقيق الاستقرار والسلام، لأن الاستقرار هو أساس الحضارات العظيمة، بينما الجغرافيا والتاريخ توجب علينا لعب دور محوري في العالم وفي الشؤون الإنسانية حاليا.

إن برنامج «الجزيرة العربية الخضراء» يكتسب أهمية كبيرة نظرا إلى كونه أول مشروع استكشافي علمي متعدد الجوانب، وإن شبه الجزيرة العربية كانت الوجهة الأولى للهجرات البشرية – وليست مجرد محطة عبور فقط - وتظهر التنقيبات الأثرية أن شبه الجزيرة العربية كانت موطنا للمستوطنات البشرية لحقب طويلة وقبيل انتشار بعضها في موجات متعاقبة إلى أماكن أخرى في العالم.

إننا نشعر بالسعادة الغامرة لكون البحوث العلمية التي تعرض في هذا المؤتمر تظهر أن التغيرات المناخية المتتالية التي تتراوح من حقب الجفاف إلى مواسم الأمطار التي عمت أرجاء شبه الجزيرة العربية - وقد أثبتت المكتشفات الحديثة وجود بحيرات وأنهار قديمة كانت السمة العامة للجزيرة العربية - لتخبرنا أن هذه البحوث والمكتشفات ما هي إلا مجرد بداية لمشروع «الجزيرة العربية الخضراء»، وتثبت بالدليل العلمي نبوءة نبينا - صلى الله عليه وسلم - قبل خمسة عشر قرنا حيث قال - صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا»، وهي دلالة قطعية على أنها كانت كذلك من قبل، وذلك ما يفتح المجال للقيام بمشاريع بحثية أخرى بين جامعة أكسفورد وشركاء آخرين مع خبراء الآثار السعوديين.

إن الهيئة العامة للسياحة والآثار في السعودية تثمن بشكل كبير هذا التعاون في حقل الاكتشافات الأثرية التي تحظى بدعم كامل من جانب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده الأمير سلمان بن عبد العزيز - يحفظهما الله - لتضع أهمية عظيمة على بعثات الاستكشاف والتنقيب عن الآثار، ونحن نعمل بشكل غير مسبوق بالتعاون مع 30 فريقا علميا في أماكن عديدة من بلادنا، وبالتعاون مع بعثات آثار من بلدان كثيرة مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة وألمانيا واليابان وبلجيكا وبولندا وفنلندا والنمسا، إضافة إلى معاهدنا الأكاديمية السعودية ونخبة من العلماء المتخصصين في الحقب التاريخية المختلفة.

وفي سعينا لاستكشاف تاريخنا، نتعاون مع معاهد مرموقة مثل جامعة أكسفورد، لكشف اللثام عن حقب تاريخية وإلقاء أضواء على موقعنا ومستقبلنا في عداد حضارات العالم ودوله.

ولكي نواصل المسيرة بناء على الجهود الصلبة التي قمنا بها في السابق، فإن الهيئة العامة للسياحة والآثار، وبالتعاون مع مؤسسات أخرى مثل جامعة أكسفورد، ومؤسساتنا الوطنية المتخصصة، ستقيم وحدة أبحاث دائمة تسمى «مركز الجزيرة العربية الخضراء» يكون محور اختصاصها دراسة البيئات الطبيعية والتغيرات المناخية القديمة وعلاقتها بالإنسان الذي تعايش معها أثناء سعيه للتأقلم مع البيئة الطبيعية المتغيرة.

وفي الختام، وبناء على الاستكشافات الأخيرة وعلم التاريخ، فإننا نعتقد بكل ثقة إن شاء الله، أن الدور الذي تؤديه المملكة العربية السعودية حاليا، والذي ستؤديه في المستقبل، ليس وليد اللحظة أو مصطنعا، أو طارئا على التاريخ، بل ينبثق من صلب موقعنا الطبيعي كورثة لحقب متلاحقة من الحضارات العظيمة التي توّجها الإسلام، وكون بلادنا قبلة المسلمين.

* من كلمة الأمير سلطان بن سلمان أمام «مؤتمر الجزيرة العربية الخضراء» في جامعة أكسفورد، يوم 2 أبريل (نيسان) 2014