مهرجان «ترايبكا» ينطلق في جو من المنافسة المتعددة بنيويورك

يجمع بين المستقل والوافد وأفلام المرأة

شون سكوت في «قبل أن أمضي»
TT

انطلقت الدورة الثالثة عشرة لمهرجان ترايبكا مساء يوم أمس الأربعاء وتستمر حتى السابع والعشرين من الشهر وفي حاضنتها أكثر من مائة فيلم تقوم بعرضها على قاطني مدينة نيويورك من الذين باتوا زبائن دائمين لمشروع أقدم عليه الممثل روبرت دينيرو وصحبه مباشرة بعد عملية الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001.

آنذاك، صرّح الممثل أن هذا المهرجان«مطلوب اليوم للتأكيد على أن المدينة لن تتراجع عن كونها ملتقى ثقافات من حول العالم» وأن هويّتها الفنية «لن تتأثر».

المثقفون وهواة السينما والإعلاميون رحبوا بالمهرجان الوليد أيما ترحيب. كيف لا وهو قرن القول بالفعل وجمع لنفسه المواهب والأفلام عاما بعد عام؟ لم يعبّر عن مقاومة مدينة فحسب، بل عن الحاجة لتفعيل الفن والثقافة في مواجهة عالم يخطط لتقويضهما.

لكن هناك شيء ما مواز أخذ يتبلور خلال السنوات القليلة الماضية. فكلما ابتعدت المسافة الزمنية عما حدث لنيويورك من مأساة، بدا المهرجان وقد انفصل عن ذلك الجزء من الحاجة التي توسّم العمل لتأمينها. اليوم، هو أقرب لأن يكون حدثا سينمائيا آخر تعرفه المدينة وتشهده سلسلة المهرجانات الدولية المتتابعة. ما يميّزه لم يعد هوية جديدة بقدر ما أصبح مرتبطا بنجاح البحث عن أفلام ذات قيمة. عملية مجهدة كما يعرف كل من أشرف أو لا يزال على برمجة واحد من المهرجانات السينمائية وعددها اليوم، من دون مغالاة، بالألوف.

دفع ذاتي الواقع أن المهرجان لا يستطيع الاتكال على أعمال المخرجين الكبار وحدهم. هؤلاء لديهم مهرجانات كان وبرلين وفينيسيا، في المقام الأول، وبضعة اختيارات أخرى بالغة الأهمية مثل تورونتو. حتى مهرجان توليارايد القابع في أعالي جبال ولاية كولورادو بات ملهما بسبب نجاحه في اختياراته التي تبقى سرّا حتى أيام قليلة جدّا قبل الافتتاح. كذلك لا يزال ترايبكا ثانيا في محيط استقطاب المخرجين الجدد (الذين يشكّلون هذه السنة النسبة الغالبة من المخرجين المشاركين) بعد مهرجان «صندانس» الذي يديره منذ نحو ثلاثين سنة روبرت آخر هو روبرت ردفورد.

المأزق، الذي لا يتحدّث عنه أحد، هو أن صندانس، في هذا المجال، هو من استقطب هوليوود التي باتت تفد إليه لاكتشاف هذه المواهب الجديدة التي يأتي بها المهرجان من عوالم الغيب. ترايبكا لا يملك سوقا وهوليوود ليست حاضرة فيه. هذا يعني أنه في الوقت الذي يمنح فيه غياب السوق ثقلا ثقافيا شبه صاف للمهرجان النيويوركي، فإن هذا الغياب يؤثر، ولو إلى حد، في دفع ترايبكا إلى الأمام ليتقدّم على ما وصل إليه من مكانة في السنوات السابقة.

على ذلك، هناك ما يشكّل دافعا ذاتيا لهذا الجهد الكبير الذي يبذله «ترايبكا» كل سنة للحفاظ على مكانته. إنه، في نهاية المطاف، مهرجان للأفلام المستقلة. وإذا ما نجح «صندانس»، الذي يقع في مستهل كل سنة، في لعب دور الجسر بين المخرج المستقل والاستوديو الهوليوودي لجانب نجاحه في جذب مواهب أسست نفسها هناك عبر عقود، فإن ترايبكا فهم أن الدور المناط به يجب أن يكون فعل الشيء ذاته على الجانب الآخر من البلاد. طبعا، وجود الاستوديوهات الأميركية الكبيرة ليس ملحوظا البتّة فيه، لكن شركات التوزيع الصغيرة التي تبحث عن الفيلم الذي لم يكلف كثيرا لكي تشتريه بمبلغ محدود يمكّنها من تحقيق ربح لا بأس به عبر توزيعه في الصالات المستقلة في طول وعرض الولايات المتحدة، حاضرة. إنها مغامرة كون حسابات «الحقل قد لا توافق حسابات البيدر» كما يقول المثل المعروف، خصوصا أن السينما المستقلة شهدت انتكاسة كبيرة في الأعوام الخمسة الأخيرة. الجمهور وقد تعددت الوسائط أمامه، بات أقل هتافا للنوع المستقل حتى وإن حمل أسماء ممثلين معروفين في بعض الأحيان.

ما يؤمن القدر الأكبر من الترويج والاهتمام حقيقة أن السلطة الرابعة تخدم هذا المهرجان جيّدا لأن نيويورك مركز إعلامي (بالصوت والصورة والكلمة المطبوعة) متقدّم عن أي مدينة أميركية أخرى. فيها تتوزع كبريات الصحف («ذا نيويورك تايمز» مثلا) وتتجاذبها مجلات أسبوعية ثقافية شاملة (مثل «ذا نيويوركر» و«نيويورك» و«فيلاج فويس») وهذه تضمن تغطية شاملة لكل ما يجول في المهرجان من نشاطات وعروض.

ومن يراجع ما كتبته مسبقا لبدء الدورة الجديدة، يجد أنها اتفقت على أن الدورة تشهد هذا العام انصبابا كبيرا على أفلام إما من إخراج شبّان جدد، أو ذات مواضيع شبابية أو - في الكثير من الأحوال - لقاء ما بين مخرجين شبّان بمواضيعهم الشبابية معا.

حياة شابّة أحد هذه الأفلام هو «غبريال» الذي يرصد حياة شاب خرج من المصحّة النفسية ليواجه العالم الذي كان سببا في دخول المصحّة أساسا. الفيلم من إخراج الجديد لو هاو وبطولة روري كولكين وهو واحد من 55 فيلم برميير لم يسبق لها أن عُرضت في أي مكان من العالم.

في «خمسة نجوم» يقدّم كيث ميلر حكاية ضياع آخر في نيويورك. البطولة هنا في نطاق فتيان سقطوا باكرا في الفخ فنجد حكاية فتى خسر والده في معركة بين عصابتين من عصابات الحي الشرقي من نيويورك ليجد نفسه وقد أصبح مقرّبا من تاجر مخدرات ذي دراية وخبرة شوارع. الفيلم ليس من أفلام التشويق والعصابات، بل كناية عن قدر من الدراسة في حياة الشوارع في عالم متضارب يواجه فيه المراهقون خيارات غير ملائمة.

وما في نيويورك نراه متمثلا في المكسيك: ها هو الفيلم الأول لمخرج جديد اسمه ألونسو روزيبالاشيوس وعنوانه «جيوروس» يدور حول توهان آخر: فتى يبحث عن مغن ذائع الصيت ليتعرّف شخصيا عليه. خلال رحلته ينظر المخرج إلى ما يقع في الجوار من أوضاع شبابية: مظاهرات الطلاب، ضياع المراهقين، العالم غير المستقر وتوهان البحث فيما قد لا يكون مجديا.

هذه الغلبة للأفلام الصغيرة والمستقلة لا تستطيع وحدها تلبية رغبات الجمهور المتحلق حول صالات السينما الذي يحتاج إلى أسماء كبيرة أو معروفة أو إلى أفلام أكثر تنوّعا ونضجا. هنا يجد المهرجان في دورته الجديدة نفسه وقد احتاج لجمع عدد من الأفلام التي سبق لها وأن عرضت في مهرجانات أخرى. في ذلك يستعير جانبا من نشاطات مهرجان «نيويورك» (الذي ينعقد في الشهر العاشر من كل سنة) والذي يحرص على عرض جديد ما تم عرضه في المهرجانات الدولية قبله. وغني عن القول أن إدارة مهرجان «نيويورك» الذي انطلق من الستينات لم تكن مبتهجة بمهرجان يقاسمها تمثيل المدينة على نطاق المهرجانات الدولية، لكن المنافسة الحالية، وإن كانت موضوعة في قمقم مختوم، مرئية، خصوصا أن كلا المهرجانين يستحوذ كذلك على نصيب كبير من الأفلام الجديدة والشابة في برنامجه.

في هذا الصدد، بين ما يجلبه المهرجان من أفلام سبق عرضها، فيلم رومان بولانسكي الأخير «فينوس في الفراء» الذي عرضه مهرجان «كان» قبل سنة لكنه لم يثر الكثير من الاهتمام كما فعلت أفلام بولانسكي السابقة.

ويستقطب المهرجان أيضا فيلم المخرجة كيلي رايشارد «حركات ليلية» الذي لم يحدث، أيضا، الصدى ذاته الذي أحدثه فيلمها السابق «اختصار ميك». فيلمها الجديد عبارة عن صرخة تضيع بعد قليل من إطلاقها ضد إفساد الحياة البيئية يضطلع ببطولتها جيسي أيزنبيرغ وداكوتا فانينغ وبيتر سكارسغارد: لقد حاولوا التعبير عن مناهضتهم لتلويث البيئة بمحاولة تفجير سد صغير فإذا بالمحاولة تتسبب في مقتل رجل بريء.

أفلام نسائية بعيدا عن التحليلات السابقة وموضع المهرجان ومنافساته، نجد أن العدد الكبير من الأفلام المعروضة حافل بما يستوجب الاكتشاف. سواء بين تلك الأفلام المستقلة الصغيرة التي ذكرنا بعضها أعلاه أو تلك الأكبر شأنا كما الحال في الفيلم العاطفي «شخص ثالث» مع ليام نيسون بعيدا عن أفلام الأكشن الأخيرة، لجانب ميلا كونيس وأدريان برودي. الفيلم من إخراج بول هاجيز.

في «قبل أن أمضي» للممثلة سابقا كورتني كوكس، حكاية شاب يرغب في زيارة البلدة التي ولد فيها قبل أن ينفذ قرارا بالانتحار. معنا هنا الموهوب شون وليام سكوت لجانب أوليفيا ثيرلبي وكايت وولش.

وفي أول فيلم بين الممثلين القديرين (والمنتمين إلى جيل سابق أو أكثر) عنوانه «الحب غريب» لمخرج جديد هو آيرا ساكس، نجد جون ليثغو وألفرد مولينو يلعبان دوري شخصيّتين مثليّتين كانا استفادا من القانون الجديد الذي أتاح لهما الزواج، لكن الحياة ما زالت مقيّدة والمفارقات التي قد تقع بين أي زوجين طبيعيين قد تقع بينهما بما في ذلك اضطرارهما لمواجهة احتمال الانفصال. المقصود هنا كوميديا خالية من المشاهد التي من شأنها دفع الفيلم صوب فئة محددة لكي يستطيع إبلاغ مضمون اجتماعي خفيف الوطأة وترفيهي حول موضوعه.

والكثير مما هو معروض نسائي الصفة والاهتمام ونسائي الإخراج أيضا ومن بينها الفيلم التسجيلي عن الكاتبة سوزان سونتاغ وضعته المخرجة نانسي كايتس. سونتاغ كانت ناقدة اعتمدت منهجا من الكتابة الحرّة والمفتوحة اجتماعيا ونرى ذلك متمثلا في فيلم آخر من بطولة جليان جاكوبس وليتون ميتسر عنوانه «شريكتا حياة» لمخرجة (جديدة أيضا) اسمها سوزانا فوغل.

وعلى نحو أكثر جدة، نجد المخرجة آمي بيرغ تترك السينما التسجيلية وتنتقل - للمرة الأولى - صوب الفيلم الروائي في دراما حول امرأتين شابّتين تودعان السجن بعد اتهامهما بخطف طفل. بعد سبع سنوات تخرجان طليقتين وها هي حادثة خطف مماثلة تقع ما يجعل الشبهات تدور حولهما من جديد. الفيلم بعنوان «كل أمر سري» وبطلتاه هما داكوتا فانينغ ودانييل ماكدونالد.

الفيلم الذي يبدو لنا آيلا إلى الكثير من الاهتمام هو كوميديا من إخراج كارن لي هوبكنز التي خطت فيلما بعنوان «مس ميدوز»، أسندت بطولته إلى كاتي هولمز التي تؤدي فيه دور أستاذة مدرسة تنقل هدفها التقويمي للطلاب من المدرسة إلى خارج جدرانها وتتحوّل إلى قاتلة (طريقة تشارلز برونسون في «رغبة موت») تنتقم من مجرمي الشوارع التي تجوبها. هذا المنوال يبدو مناسبا وآمنا فهي بقيت لغزا أمام رجال القانون إلى أن وقعت في حب شريف المدينة (جيمس بادج دايل).