جدل ومخاوف في شوارع كابل من الغزو الثقافي

من «صوت الشريعة» في عهد طالبان.. إلى انفجار في سماء الإعلام الأفغاني

مذيعة أفغانية تعمل في إحدى المحطات المحلية
TT

تأثر قطاع الإعلام الأفغاني من جراء الحروب المتلاحقة التي شهدتها أفغانستان منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلى جانب باقي مؤسسات الدولة التي انهارت بنيتها التحتية، قبل غزو الاتحاد السوفياتي السابق لهذا البلد في ثمانينات القرن الماضي.

وكان الإعلام الأفغاني إبان مرحلة الثمانينات في طور الإنشاء والتطور، وكان «تلفيزيون ملي» وهي القناة التلفزيونية الرسمية الوحيدة التي كانت تبث برامجها في المدن الرئيسة فقط، وبلغتي الداري والباشتو، إلى جانب عدة لهجات أوزبكية وتركمانية ونورستانية، وهي القبائل والعرقيات القاطنة في أفغانستان، ومع اندلاع الحرب الأهلية بين أحزاب المجاهدين عقب سقوط كابل عام 1992 تنقلت القناة التلفزيونية الرسمية من يد إلى يد والجهة التي كانت تسيطر عليها «كوة تلويزون» وهي التلة التي تتوسط مدينة كابل، ومنها تبث القناة الحكومية برامجها كانت تتحول القناة إلى منبر لادعاءات، وبث برامج حزبية خاصة، وأخبار تفيد تقدم مجموعات مسلحة على منافساتها من أحزاب المجاهدين، إلى أن ظهرت حركة طالبان المتشددة عام 1996 في ولاية قندهار عاصمة الجنوب الأفغاني، والمعقل السابق للحركة ومنها زحفت إلى باقي المحافظات الأفغانية وهي تكسر شوكة منافسيها من أحزاب المجاهدين، إلى أن تسيدت العاصمة كابل، وسيطرت عليها بعد خروج قوات تحالف الشمال السابق بقيادة أحمد شاه مسعود الذي قتل بأول عملية انتحارية نفذها عنصران من «القاعدة»، أظهرا أنهما صحافيان بولاية «تخار» شمال أفغانستان في التاسع من سبتمبر (أيلول) 2001. قبل يومين من هجمات سبتمبر.

وكانت أول خطوة قامت بها طالبان، هي إغلاق القناة التلفزيونية الوحيدة الناطقة باسم الحكومة وغيرت اسم «راديو ملي» إلى إذاعة «صوت الشريعة»، وبدأت تبث من خلالها برامج دعوية وأناشيد إسلامية ترتبط بأفكار طالبان، ومعتقداتها وتفسيرها عن الإسلام، كما شرعت في بث أخبار تتعلق بجبهات القتال، شرعت في ترويج أخبار تتعلق بتقدم مقاتليها وبث السيطرة على غالبية الأراضي الأفغانية في الشمال والوسط الأفغاني، ضد قوات مناهضة من قادة تحالف الشمال، كما منعت طالبان منعا باتا الاستماع إلى الموسيقى وأفتى علماؤها بحرمة الموسيقى بكافة أنواعها، وحذرت أن كل من يخالف أوامرها فإنه سيعاقب وستقام عليه الحدود الشرعية، وفي عهد طالبان اختفت جميع أنماط الموسيقى، وغادر غالبية الفنانين الأفغان البلد إلى الدول المجاورة، حيث استقروا في باكستان وإيران الدولتين الجارتين لأفغانستان وحالف بعضهم الحظ في اللجوء إلى الدول الأوروبية.

وبعد الإطاحة بحكومة طالبان نهاية عام 2001، وعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة تدفقت أموال المجتمع الدولي والدول المانحة لإعادة إعمار ما دمرته الحرب وشملت جميع القطاعات منها قطاع الإعلام، حيث استثمرت كثير من الدول والمؤسسات، في هذا القطاع سعيا منهم للترويج لفكرة الرأي والرأي الآخر، ضمن حرية الإعلام، فأسست عشرات المحطات التلفزيونية المستقلة، ومئات محطات إذاعية تبث برامجها على موجات «إف إم»، وأصبح لغالبية أمراء الحرب وقادة المجاهدين السابقين محطة تلفزيونية تنطق باسمهم وتبث برامج حزبية خاصة بهم، فامتلك الرئيس الأفغاني الأسبق برهان الدين رباني الراحل الذي قتل بهجوم انتحاري في داخل منزله بكابل قبل ثلاثة أعوام قناة «نور»، كما امتلك محمد كريم خليلي الزعيم الشيعي القوي النائب الثاني للرئيس كرزاي، قناة «نكاه» أي النظرة، وكان الجنرال عبد الرشيد دوستم الرجل المثير للجدل أول من يقوم بتأسيس قناة تلفزيونية خاصة به سماها قناة «ايينه» أي المرآة».

لكن إلى جانب هذه القنوات الحزبية والقومية ظهرت قنوات خاصة تحولت اليوم إلى ما أشبه بإمبراطوريات إعلام في أفغانستان أهمها باقة قنوات «تولو» أو طلوع والتي تعود لرجل الأعمال الأفغاني سعد محسني، الحاصل على جنسية أسترالية، محسني استهل مشروعه الإعلامي بتأسيس قناة «تولو» التي تبث برامج ترفيهية مثل الموسيقى والمسلسلات الهندية والتركية المدبلجة التي تلقى إقبالا واسعا في الشارع الأفغاني، ثم جاءت قناة «تولو نيوز» وهي مخصصة لبرامج إخبارية وحوارية ونقاشات سياسية حادة حول قضايا البلد المصيرية قلما يتحدث عنها باقي القنوات المحافظة، هذه الصراحة في طرح البرامج ومناقشتها جعلت من قناة «تولو نيوز» تتصدر واجهة الإعلام الأفغاني الحديث، وإلى جانب قناة «تولو نيوز» التي تبث معظم برامجها باللغة الدارية الفارسية قام سعد محسني بإنشاء قناة «لمر» أو الشمس ستبث برامجها باللغة الباشتونية وهي اللغة التي يتحدث بها في قبائل الباشتون في الجنوب والشرق الأفغانيين.

ومؤخرا ظهرت قنوات تلفزيونية خاصة بدأت تنافس تولو في طرح القضايا والأفكار من أهمها قناة «ون تي وي» التابعة لرجل أعمل أفغاني وقناة أريانا التابعة لشخصية سياسية وقومية، وهو إحسان الله بيات لكن بنظر غالبية الأفغان تبقى قنوات «تولو» هي الرائدة حتى الآن في مجال إعلام الأفغاني بعد طالبان.

أما بعض القنوات الخاصة التي حصلت على دعم مالي من الدول المانحة ومنظمات غير حكومية بدأت تنهار تغلق أبوابها بسبب اقتراب موعد خروج المجتمع الدولي من أفغانستان نهاية العام الحالي، وتقلص المساعدات الدولية لأفغانستان التي على ما يبدو لم تعد أولوية للمجتمع الدولي بعد أن كانت خلال السنوات العشر الماضية.

يقول حبيب حكيمي وهو كاتب وصحافي أفغاني يتحدث العربية بالطلاقة لـ«الشرق الأوسط» وهو يتابع برامج المحطات التلفزيونية الخاصة بأن غالبية هذه القنوات أسست في مرحلة خاصة، وعلى العجالة للكسب المادي دون أن يكون هنا تخطيط واضح في تأسيس قنوات أو إذاعات، من شأنها بث برامج تنور عقول الشباب والشابات الطواقين إلى الحرية ومعرفة ما يدور في العالم، فكانت النتيجة وفقا لحكيمي أن بعض تلك القوات اختفت أو هي في طور الاختفاء نظرا لقلة المساعدات الدولية لهذا القطاع الحيوي.

الشارع الأفغاني منقسم حول طفرة الإعلام والقنوات الخاصة التي تبث برامج موسيقية فمنهم من يرى أنها حرب جديدة تشن ضد بلادهم بحجة حرية الصحافة، ويرون فيها غزوا ثقافيا يحاول الغرب تغيير معتقداتهم من خلال هذه البرامج.

يقول حضرت جول وهو صاحب محل تجاري صغير في منطقة «ده أفغانان» لـ«الشرق الأوسط» بأن المسلسلات التي تبثها قنوات خاصة لا تستحق المشاهدة لأنها تخالف عادتنا وتقاليدنا فنحن مجتمع إسلامي محافظ لم نتعود على مشاهدة مثل هذه المشاهد التي تبثها هذه القنوات. فيما يتهم بعض الأفغان المحطات الخاصة بأنها تتلقى الأموال من دول الجوار لنشر ثقافاتهم ومعتقداتهم الدينية والمذهبية وأن هذه الدول في إشارة إلى إيران وباكستان تقوم بتمويل عدد من المحطات لتشويه سمعة الأفغان وبث الفرقة واستهداف الوحدة الوطنية بين العرقيات الساكنة في أفغانستان، وأيا كان الموقف فالواضح أن أفغانستان تخطو خطوات كبيرة في مجال الإعلام الحر وأن هذا القطاع شهد خلال السنوات العشر الماضية من حكم الرئيس المنتهية ولايته حميد كرزاي نقلة نوعية وطفرة كبيرة إلى الأمام.