«غريس موناكو».. فيلم الافتتاح يحتفظ بحقـه مزج الحقيقة ببعض الخيال

«الشرق الأوسط» في مهرجان كان السينمائي (2)

كيدمان خلال التصوير مع المخرج أوليفييه داهان
TT

في فيلمه الذي حازت عنه الممثلة ماريون كوتيار أوسكار أفضل تمثيل نسائي «وردة الحياة» سنة 2007. تحدث المخرج عن فنانة لا تستطيع التوقّـف عن الفن. إنها المغنية الفرنسية إديت بياف التي كادت أن تقضي وهي تقف على المسرح.

في فيلمه الجديد «غريس أوف موناكو» (Grace of Monaco) الذي افتتح الدورة الـ67 لمهرجان «كان» السينمائي يوم أمس الأربعاء، يتحدث المخرج ذاته عن ممثلة كانت لا تريد أن تعتزل الفن، لكنها قبلت بذلك على مضض.

إنها غريس كيلي، الممثلة التي ولدت سنة 1929 ومثلت للتلفزيون منذ سنة 1950 وحتى قيام المخرج ذائع الصيت جون فورد بتحويلها إلى وجه سينمائي في فيلمه «موغامبو» أمام كلارك غايبل وآفا غاردنر. كان ذلك سنة 1953 وبعد عام واحد طلبها ألفرد هيتشكوك للعب دور الزوجة التي ينوي زوجها راي ميلاند قتلها مستأجرا للغاية خدمة قاتل محترف. هيتشكوك أحب موهبة هذه الممثلة التي لا ترهقها إرشاداته الصارمة فأسند إليها البطولة النسائية في «نافذة خلفية» الذي حققه في العام ذاته حول مصوّر صحافي (جيمس ستيوارت) لا يستطيع الحراك بسبب حادثة، لكنه يستطيع التلصص على جيرانه مكتشفا جريمة قتل تقع في إحدى شقق البناية المواجهة.

ظهرت في ثلاثة أفلام أخرى قبل أن يطلبها هيتشكوك مرّة ثالثة في «للقبض على لص» (1955) أمام غاري غرانت لاعبا شخصية لص ظريف يعيش ويعمل في منطقة الريفييرا. بعد ذلك ظهرت في فيلمين، ثم عندما التقت راينر الثالث، أمير موناكو، وافقت على الزواج منه. وحين عرض عليها هيتشكوك بطولة فيلمه اللاحق «مارني» شعرت بالرغبة في العودة للتمثيل، لكنها كانت اكتشفت موقعها الجديد وما يفرضه عليها، وواجهت بعد ذلك ممانعة زوجها ما دفعها للاعتذار عن قبول ذلك الدور فذهب إلى الممثلة تيبي هدرن التي كانت لعبت بطولة «الطيور» لهيتشكوك سنة 1963.

أحداث فيلم أوليفييه داهان تجري قبل عامين من ذلك التاريخ. في ديسمبر (كانون الأول) سنة 1961 جاءها المخرج الكبير إلى دارتها وترك عندها سيناريو الفيلم. قالت لا، لكنها لم تعنها. عندما رأت أن مكانها الحقيقي هو في موناكو وليس في هوليوود، ودورها هو الوقوف إلى جانب زوجها الذي كان يمر بحقبة تاريخية صعبة وأن ترعى أولادهما الثلاث، تصدّت للمهمة وانتزعت من رأسها فكرة العودة إلى التمثيل. فيلم داهان هو عن نجمة لامعة أعادت وضع أولوياتها وهو ينتهي قبل عشرين سنة من وفاتها أي العام 1962، وحسب الفيلم الذي استندت كتابته إلى مصادر متعددة، استطاعت إقناع الرئيس الفرنسي شارل ديغول بـ«الحفاظ على الجمال» الذي هو إمارة موناكو بعدما كان يسعى لتقويض الإمارة وضمّـها إلى الإدارة الفرنسية إلا إذا دفعت للدولة الفرنسية الضرائب.

آخر كلمة حوار في الفيلم هي «أحبّـك»، يقولها الأمير راينر (توم روث) لزوجته هامسا في تلك الحفلة الكبيرة التي أقيمت احتفاء بمنظّـمة الصليب الأحمر. لقد استطاعت تعديل رأي الرئيس الفرنسي (بعدما قبل دعوتها الشخصية للحضور قائلا لوزرائه «لن أخاف من ممثلة») بعد كلمتها التي ترقرقت الدموع في عينها وهي تلقيها. في الحقيقة، الفيلم فيه أكثر من مشهد يصوّر فيها المخرج دموع نيكول كيدمان تترقرق في مقلتيهما أو تنذرف على خدّيها وهو لم يكن ليستطيع ذلك لولا هذا الأداء الجيد من الممثلة الذي يفوق معظم ما أدّته من أفلام سابقة.

الفيلم سلسلة من المآزق، ولا بد أن بعضها كان مبكيا لامرأة وجدت نفسها محور الحياة الشخصية لموناكو كلها، فإلى جانب الأزمة العاتية التي ضربت العلاقة بين فرنسا والإمارة وما كادت أن تفضي إليه من التهام الأولى للثانية، مرّت الإمارة في ذلك الحين أزمات أخرى مثل إشرافها على الإفلاس كما عايشت كيلي أوضاعا كئيبة: لديها زوج يفضل السياسة على كل شيء. ينظر إليها بحذر. يحاول فرض وصايته عليها وتحيط بها ثقافة تختلف تماما عن تلك الأميركية الأكثر، والكلام للفيلم، مباشرة وحرية.

لكنها كسبت الزوج مرّة ثانية وكسبت معركة الإمارة ضد فرنسا كما كسبتها ضد شقيقة الزوج التي كانت تحاول مساعدة شارل ديغول الاستيلاء على الإمارة لقاء تعيينها هي كملكة.

كم من هذا الفيض من الأزمات صحيح وكم منه خيالي هذا ليس واضحا تماما. هل خطاب غريس كيلي هو فعلا ما أثّـر في شارل ديغول فعفا الإمارة من خطته؟ هل حدثت تلك المشادات بينها وبين زوجها أو بين زوجها وبين مندوبين ومسؤولين أوروبيين؟ هل قدّر الأمير راينر زوجته حق قدرها لاحقا عندما يكتشف الجهد الذي تبذله في سبيله وسبيل الإمارة؟ لا ريب أن هناك صدقا في الكثير من هذه الأحداث التي نراها، لكن لا عجب أيضا أن يصدر من القصر، وكما أشرت البارحة، إعلان تتبرأ فيه العائلة من الفيلم وتنفي أن أحداثه وقعت على النحو الذي يصوّره المخرج داهان. العجيب هو أن أولاد غريس كيلي هم من أصدره.

الفيلم لا يحاول إلا أن يتوجّـه للجمهور العام: 35 مليون دولار ميزانيّـته. ناطق بالإنجليزية (مع قليل من الفرنسية). يحمل أسلوب سرد غير شخصي ومنفتح على كل الأذواق من دون خصائص فنية تحد من وصوله إلى الجمهور السائد. حتى ولو لم تكن المشاهد المعروضة حقيقية تماما أو حتى لو رش المخرج الملح والبهارات على السطح وفي بعض الجوانب، إلا أنه يبقى ممارسا لحقّـه في مزج الحقائق بشروط العرض رغم أن الكثير مما نراه على الشاشة يبقى عكسا للتفاصيل الواقعية من تصاميم الأماكن والملابس وتصفيف الشعر إلى مجمل ما وجده المخرج مناسبا لسرد الحكاية.

هذا لا يعني أنه فيلم جيّـد على نحو كبير. بالتأكيد ليس عملا فنيا خالدا أو فيلم يعود إليه المشاهد متأثرا بما ورد فيه، لكنه ليس إضاعة وقت، ومع أن عليه أن يتمتع بجماليات المكان وأن يلتزم بتقديم شخصيته الرئيسية على نحو إيجابي، إلا أنه ليس بلاستيكيا هشّـا كما كان متوقعا. في مجمله هو نتيجة معرفة بما يريد المخرج قوله وبكيفية قوله ونتيجة رغبته في أن يقدّم غريس في ضوء لامع والآخرين في ظلالات متباينة قبل أن يمنحها (كما حال شخصية الزوج وحال المشرفة الأولى في القصر) إضاءة أفضل.

اختيار المهرجان لهذا الفيلم لافتتاح هذه الدورة في مكانه، إن لم يكن لشيء فلحقيقة أن غريس كيلي تعرّفت على أمير موناكو في هذه المدينة وبمناسبة عرض فيلمها «للقبض على لص» في المهرجان سنة 1955. باختياره يمنح المهرجان تأييده للمخرج داهان الذي واجه مشاكل عدّة خلال التصوير. فقد بوشر بتصوير هذا الفيلم قبل عامين. في العام الماضي اختلف المنتج الفرنسي بيير أنج لي بوغام والمخرج داهان مع الجانب الأميركي المتمثّـل بهارفي واينستاين (الذي كان دفع خمسة ملايين دولار لقاء عروضه الأميركية). سبب الخلاف هو رغبة واينستاين إعادة توليف الفيلم على نحو يرضاه هو. لقد وجد أن الفيلم يتحدّث في السياسة والأزمات الداخلية للإمارة أكثر مما يسرد قصّـة عاطفية ناعمة يستطيع بيعها لجمهوره. إلى ذلك، يقال: إنه كان يرغب في فيلم يدخل به أوسكار السنة المقبلة لكنه فوجئ بفيلم لم يأخذ بعين اعتباره أيا من هذه الشروط. داهان رفض إعادة توليف فيلمه ملتزما بحقه كمخرج، وهو حق يضمنه القانون الفرنسي. أما هارفي فصنع نسخة مختلفة ليفاجأ بأن مهرجان «كان» اختار الفيلم، بنسخته الأصلية، للافتتاح. ربما ستكون النسخة التي سيعرضها على الأميركيين أو سيبعث بها إلى الأكاديمية موزعة الأوسكار أو إلى مسابقة «الغولدن غلوب»، لكن من المشكوك فيه أن تكون أفضل من هذا العمل على تواضعه فنيا.

* ألفرد هيتشكوك الذي لا يكف عن الحضور

* يؤدي الممثل روجر أشتون غريفيث شخصية المخرج ألفرد هيتشكوك في هذا الفيلم ويعرض المهرجان فيلم هيتشكوك «نزل جامايكا» (1939) في تظاهرة من الكلاسيكيات السينمائية. لكن الحقيقة أن هيتشكوك حاضر شبه دائم من العام 1946 عندما قدّم هنا «مشهور» داخل المسابقة وحتى اليوم. فبعد ذلك الفيلم اشترك هيتشكوك خمس مرّات متوالية عن «أنا أعترف» (1953) و«الرجل الذي عرف أكثر مما يجب» (1956) و«الطيور» (1963) و«ذعر» (1972) ثم «حبكة عائلية» (1976). بعد وفاته سنة 1980. مباشرة قبل دورة ذلك العام، استعيد هيتشكوك عدة مرات فعرض المهرجان له «سايكو» الذي حققه المخرج سنة 1960 وذلك في حفل خاص سنة 1910. في العام الماضي عرض له فيلمين من أعماله الفذّة «فرتيغو» الذي أخرجه سنة (1958) وذلك بحضور بطلته كيم نوفاك و«الطيور» (1963).

كل هذا ولجان التحكيم طوال هذه الحقبة أغفلت منحه أي جائزة عن أي من أعماله.