متأسف مسز جونز

محمد رُضــا

TT

منذ انتشار كاميرات بولارويد والتصوير الفوتوغرافي أخذ منحى آخر. حدث ذلك في الثمانينات لكن ولادتها تعود إلى العشرينات فعلا. الغاية منها أن تلتقط الصورة التي تريد بالضغط على زر، ثم استخراج الصورة مباشرة بالضغط على زر آخر. حين تخرج الصورة تتركها لبضع دقائق حتى تنشف. بالنسبة للبعض هذا أفضل من إيداع الفيلم لدى محل التصوير وتسلمها بعد ظهر اليوم التالي أو بعد أيام.

حاليا، وكما نعلم جميعا، كاميرات الدجيتال، التي لا تحتاج لأفلام أساسا، هي السائدة بين الناس. هذه بدورها تظهر نتيجتها فورا. لا تعطيك صورا ورقية على الفور لكنها تتيح لك أن ترى الصور الملتقطة على شاشتها ثم على شاشة الهاتف أو الكومبيوتر ويمكن من هناك طبعها أو إرسالها إلى فرد آخر أو مائة ألف فرد.

هذه هي سمة التقدّم التكنولوجي، وكالعادة في كل تقدّم تكتسب شيئا وتخسر أشياء أخرى. كما أدّى حجم المراسلات إلى اختصار الوقت وإعفاء المرسل عن القيام بمهمّـة الذهاب إلى مركز البريد لإيداع رسالته التي ستأخذ أياما قبل وصولها، بات من الممكن وصول الرسالة، مكتوبة أو مصوّرة، بعد ثوان من إرسالها. هذا جيّـد. السيئ هو أن البطالة نالت من ألوف سعاة البريد وأن الاتكال على توزيع الإعلانات المطبوعة في صندوق بريدك اليومي، خصوصا في أميركا، زاد خمسة أضعاف من باب التعويض. وعوض أن ساعي البريد كان يقوم بجولته البريطانية مرّتين في اليوم، تم اختصار عمله إلى يوم واحد. ولم يعد هناك ما نشاهده في بعض الأفلام القديمة حين تسأل الزوجة الصبور ساعي البريد «هل لدي رسالة اليوم؟» فيفحص ذلك بعض ما حمله بيده من خطابات ويقول: «متأسف مسز جونز… لا شيء اليوم لك».

التصوير الفوتوغرافي الذي يستخدم الفيلم ذهب أو يكاد على مستوى الاحتراف أو على مستوى الهواية. لكنه التصوير الذي كان يعكس موهبة ملتقط الصورة أو جهله بأصول التصوير. وهو التصوير الذي كان يتطلّـب القدر الأعلى من المعرفة بالعناصر التي تؤلّـف الصورة الصحيحة: الضوء، الظلال، الشخص أو الموضوع الذي نقوم بتصويره، الإيحاء، الألوان المستخدمة، موقع التصوير، المحيط الطبيعي أو الديكوراتي… كل هذه كانت تشحذ همم الناس الذين بت تراهم اليوم يلتقطون الصور بسهولة من دون صرف الدقائق المطلوبة لتأمين فن الصورة.

لا أقول: إنه من الصعب التقاط صور جميلة وموحية وفنية بكاميرات الدجيتال، لكن هناك اختلاف من أيام ما كان التصوير هواية رومانسية يشيدها المصوّر في علاقة ثلاثية: هناك نفسه وموهبته وما يهتم بالتعبير عنه، هناك الكاميرا التي يستخدمها ويمنحها كل حبّـه ثم هناك «الموضوع» The Object الذي يثير اهتمامه.

لم تكن تستطيع التقاط أي صورة. إذا فعلت أدركت أنها لا تصلح. كنت تمزّقها حال خروجها من عند المختبر. لم تكن تستطيع أن تتلاعب بشروط الكاميرا فتستخدم فيلما ذا حساسية عادية في مكان لا نور فيه. وإذا تدرّبت واشتغلت على نفسك وجدتها وقد أصبحت شغوفة بالإتقان. تصوّر تصبح الكلمة الرديفة لـ«تتقن».

حين أرى الناس تلتقط الصور بكاميرات الدجيتال الصغيرة أرى اختصار الأيام إلى زر هنا وزر هناك. يوقف المرء ابنه أو زوجته بعيدا عنه عند ساحة ترافلغر سكوار ويسارع بالتقاط الصورة. شيء ما اختفى ولا تستطيع أن تدرك ما هو إلا عبر مقارنة الكاميرات وخصائصها.