المخرج غارث إدواردز يتحدث عن خلفيات تصوير «غودزيللا»

قال إنه أراد تقديم فيلم مقنع كما لو كانت أحداثه تقع فعلا

المخرج مع الممثل الياباني كن واتانابي - غودزيللا - إليزابيث أولسن: الوحش الذي في البال
TT

يقف شاب نحيف البنية رشيق القوام يميل شعره إلى الاحمرار عند باب حافلة مدرسية صفراء. لا. إنه ليس الموكل بإيصال الأولاد إلى باب المدرسة، ولا هو السائق يرتاح من عناء القيادة. بل هو المخرج غارث إدواردز والحافلة خالية في تلك اللحظة من الأولاد. في الواقع الأولاد كانوا في مشهد آخر والآن رحلوا. الحافلة ما زالت واقفة عند الرصيف.

غارث يفكّـر في إتقان اللقطة التالية من «غودزيللا»، مغامرته الكبرى إلى اليوم، عندما اقتربت منه إليزابيث أولسن بثياب المشهد الذي تؤديه. إنها الممرضة التي سنراها في الفيلم حائرة بين أن «تنفذ بجلدها» وأن تسعف المصابين. تسأله عن اللقطة التالية. يبدأ الشرح. لا أسمعه فهو بعيد، لكني أفهم أنه يخبرها من أين سيأتي ذلك الوحش وأين من المفترض أن يكون عندما ترفع رأسها إلى الأعلى وتتجمد مذهولة.

على الشاشة، هذا ما يحدث. ها هي وسط الناس المرتاعين. ترفع رأسها إلى حيث من المفترض أن غودزيللا الرهيب مقبل بكل ثقله. تلتفت خلفها وتركض، لكنْ هناك وحش آخر آت من الخلف والجموع مثلها حيارى، أي اتجاه يتخذونه للهرب! حين الجلوس لمتابعة فيلم، خصوصا إذا ما كان من النوع التشويقي والخيالي، فإن أول ما ننساه هو أن ما نراه ليس حقيقيا. إذا ما فكّـرنا خلال المشاهدة أنه غير حقيقي فإن الفيلم سقط في منتصف الطريق وانهارت كل المراهنات على نجاحه. على الشاشة تنظر الممثلة إلى الوحش. هناك لقطات له يقطع الفيلم إليها. لكن في الواقع، وخلال التصوير، هي فقط تنظر إلى نقطة ما في السماء الصافية. لا وحش ولا كواسر ولا حتى ذبابة.

كل شيء في «غودزيللا»، الذي انطلقت عروضه قبل نحو شهر، كبير. يضحك المخرج حين سؤاله عن كلفة المشهد الذي يكتشف فيه العلماء بقايا التنين ويقول: «سمعت أنه كلّـف 900 ألف دولار ...». ويضيف: «هذا أكثر مما تكلّـفه فيلمي السابق». وفيلمه الأول كان بعنوان «وحوش» وكلفته لم تتجاوز 800 ألف دولار، والرابط بينهما هو أنهما ينتميان إلى النوع الواحد، فكلاهما فيلم خيالي الحياكة من بطولة بشر ووحوش. الاختلاف أن الوحش القادم من أعماق المحيط على الجانب الياباني منه هو أكبر من أي وحش سابق.

ذلك المشهد من تلك التي تبدو كما لو أن بمقدور معظم المخرجين تحقيقها بعيون مغمـضة: الممثل الياباني كن واتانابي والممثلة البريطانية سالي هوكينز عليهما أن يمشيا بين الحفريات الكبيرة ويتحدّثا حول الاكتشافات ويرسما على وجهيهما التعابير المطلوبة. لكن هذا لم يحدث سريعا: «هذا المشهد استغرق تصويره يومين عوض يوم واحد كما كان مبرمجا له. السبب هو أن واتانابي وهوكينز كانا يرتديان قناعي أوكسجين (كما هو واضح في الفيلم) وكان زجاج القناعين يُـصاب بالغبش سريعا فلا نستطيع أن نرى وجه الممثل، ولا هو قادر على أن يتحدث بصوت عال كاف لأن تلتقطه آلات الصوت. تطلّـب الأمر ابتكار مراوح صغيرة يجري وضعها بجانب الرأس لكي تبقي الزجاج واضحا، والعمل على تغيير نظام الصوت. وفي النهاية استطعنا الحصول على النتيجة المطلوبة».

غارث إدواردز ولد قبل 39 سنة في بلدة نانيتون في بريطانيا وأحب السينما منذ الصغر. أراد أن يخرج للسينما وأن يخرج الأفلام التي أحبّـها أكثر من سواها: الخيال العلمي وأفلام الوحوش المدمّـرة. درس الإنتاج في الجامعة وانخرط في عداد العاملين في المؤثرات السينمائية، وهذا أفاده لأنه عندما قام سنة 2010 بتحقيق فيلمه الأول «وحوش» وفّـر على الإنتاج أطنانا من المال عندما أخذ ينفّـذ المؤثرات بنفسه. إلى جانب أنه كتب وأخرج وكان واحدا من خمسة أفراد عملوا وراء الكاميرا وليس 500 كما الحال في مثل هذه الأفلام التي ينتمي إليها فيلمه الثاني «غودزيللا».

أسأله: لماذا غودزيللا؟ يجيب: «لأنه كان أحد أول الشخصيات الخيالية التي شاهدتها وأحببتها. حين كنت صغيرا تعرّفت على غودزيللا من خلال الرسوم المتحركة على التلفزيون. غودزيللا كان لديه (بابي غودزيللا) اسمه غودزيكي، لا أمزح، وكان وحشا كاريكاتيريا سخيفا... وعندما قررت أن أخرج غودزيللا وهذا قبل أن يعرض علي هذا المشروع، أصبحت مثار سخرية الكثير من الأصدقاء والمعارف مرددين أنني سأحقق فيلما عن (غودزيكي) وليس غودزيللا» (يضحك).

أسأله إن كان شاهد أفلام غودزيللا الحيّـة على الشاشة الكبيرة، يقول: «بالتأكيد. كنت لا أزال صغيرا عندما قام (معهد الفيلم البريطاني) بعرض مجموعة من أفلام غودزيللا اليابانية، وفوجئت في الواقع بمدى جدّيتها. لم أكن أعرف تماما أن هذه الأفلام عالجت الوحش وفكرة خروجه من الماء وهجومه على المنشآت والمدن على نحو جدّي. أعتقد أنني كنت ما زلت تحت تأثير تلك الرسوم الكوميدية. وهذا ما بقي معي عندما بدأت العمل على هذا الفيلم. أريد أن أقدم فيلما جادّا كما لو كان غودزيللا وحشا حقيقيا وما يحدث على الشاشة يحدث بالفعل».

حين وقع اختيار وورنر على هذا المخرج الجديد وغير المعروف على أي صعيد فعلي، ومنحه الثقة وفوقها 160 مليون دولار لصنع الفيلم، لم يكن غارث واثقا من المبرر، يستطرد: «سألني قبلك أكثر من صحافي هذا السؤال حول السبب الذي دفع هوليوود لكي تتعامل مع مخرج لم يسبق له تحقيق فيلم بهذه الميزانية وبهذا الحجم من قبل، وجوابي الفعلي أنني لا أعرف تماما».

أبادره: «هل سألت؟»، يجيبني قائلا: «يبدو لي أنني أحسنت بأني لم أسأل، لأنه لو سألت المنتجين عن السبب الذي من أجله جرى اختياري فإن الوساوس سوف تحيط بهم وتدفعهم للتساؤل إن كانوا أحسنوا الاختيار. لا أدري قد يظن البعض أنني لست واثقا من قدراتي وهذا آخر ما تريده عندما تكون بلا خلفية تتولى تبرير اختيار الإنتاج لك».

لكن في وقت ما، عند نقطة ما ربما خلال أحد الاجتماعات المكثّـفة بين المخرج وأرباب استوديو وورنر وشريكه استوديو توهو (مالك الحقوق) أو ربما في اجتماع لم يحضره إدواردز، لا بد أن السؤال طرح حوله، لكن ما يمكن أن يكون ساعد على اتخاذ القرار بشأنه فيلمه الأول «وحوش». فيلمه ذاك تميّز بأنه تجاوز، بصريا، حدود الميزانية التي صنع بها، وبما أنه فيلم يشبه في قوامه فيلمه الكبير هذا، فإن هذه الوحوش وطريقة صنعها وتشكيلها وتقديمها هي التي تحدّثت عنه بصوت عال. ما يميّـز أسلوب إدواردز عن معظم خلانه هو أنه لا يتّـخذ الوحش أداة مبسّـطة للترفيه، بل يعامله كما لو كان حقيقيا، وهذا اتضح في فيلمه الأول كما يتضح في فيلمه الثاني.

بمقارنة نسخة إدواردز مع نسخة رونالد إيميريش قبل خمس عشرة سنة أو نحوها عندما حقق فيلمه عن «غودزيللا»، يكتشف المرء قيمة أن يسبر المخرج ومساعدوه دربا واقعيا في التعامل مع أقصى حدود الخيال. في «غودزيللا إيميريش» الوحش هو للعين لكي تعجب وللنفس لكي تجزع أو تعجب. إنه الشيء الذي لا يحتل مدينة نيويورك فقط ويدمّـرها بل يحتل الفيلم ويدمّـره أيضا.

«لن أتحدث عن أفلام غيري لكني أستطيع القول إن ما تذهب إليه صحيح. الواقعية في الخيال هنا تستطيع توفير وضع صحيح في نظري يصير معه المشاهد قادرا على أن يتعامل مع الوحش كما لو كان خطرا حقيقيا. آخر ما كنت أفكّـر به عندما كنت أعمل على هذا الفيلم هو ابتكار مشهد مصنوع للعين خارج سياق الفيلم. كان على كل شيء أن ينتمي إلى الفيلم وليس إلى المشاهد. لا تستطيع أن تصنع فيلما والمشاهد في بالك إلا من حيث التخطيط الأول عندما تدرك أنك تصنع فيلما لهذه الفئة أو تلك الفئة من المشاهدين. بعد ذلك تنصرف إلى تحقيق ما تستطيع تحقيقه على أفضل وجه».

أتساءل: «كيف يمكن أن تضمن الواقعية في فيلم خيالي يعرف كل الناس أنه ليس واقعيا؟»، يجيب قائلا: «في الكثير من الأفلام يجري حشد كل الطاقات لتأمين اللقطة التي يمكن أن يقال عنها إنها واقعية. بمعنى مقنعة. لكن في صلب تكوين اللقطة ذاتها يكمن عدم معرفة كيف يمكن إنجازها كلقطة واقعية. أحيانا ينكشف ذلك عندما يجري الطلب من الكاميرا أن تفعل ما لا تستطيع أن تفعله، لذلك يبدو أن هناك تناقضا بين الوجهة المرغوبة والتنفيذ».

سؤال قد يخطر ببال الكثيرين: «هل على الكاميرا أن تبقى كاميرا؟ في الفيلم هناك دور محدود لها خصوصا في مشاهد وصول الوحوش الثلاث إلى المدن». يجيب: «نعم شيء من هذا القبيل. عليها أن تتصرّف حيال الوحوش كتصرّفها حيال الناس».

أعلق: «يبدو أنك كنت واثقا من كل خطواتك»، فيجيبني قائلا: «هذا ليس صحيحا. قبل المباشرة بالعمل كانت مراسلاتي مع المنتجين لا تظهر سوى الرغبة في تحقيق فيلم عن (غودزيللا) وهؤلاء لا بد تعاملوا مع الكثير من الرغبات. لكني لم أكن واثقا من أن خططي ستنجح إلى أن تسلمت الرد النهائي وكان إيجابيا».

رغم أن «غودزيللا» ليس الفيلم الوحيد من نوعه أو في مجال السينما الخيالية فإن عشرات الأفلام السابقة لا تجعل عمل المخرج سهلا بالضرورة. أليس كذلك؟ يقول: «تماما. هناك الكثير جدّا من التفاصيل التي تبدأ بالاستحواذ على تفكيرك وتتحوّل إلى مهام عليك أن تقوم بها قبل التصوير وخلاله وبعده. كل مرحلة تخطو لها تصبح أهم من المرحلة السابقة التي كانت الأهم والأخطر. كل شيء متوقّـف على تلك الرؤيا الشاملة التي تحلم بها وسأعطيك مثلا: هناك التخطيط البصري الذي علينا القيام به قبل التصوير (يسمّـونه بالإنجليزية Previs وهو اختصار لكلمة Prevision) حيث نواجه امتحان معرفة ما إذا كان الطموح الذي في البال والرغبة التي نشعر بها قابلين للتنفيذ أم لا. في البداية شعرت أن هذا العمل سيسرق من جهدي ومن رؤيتي الخاصّـة. التحضير على هذا النحو قد يسرق من الفيلم ذاته. يجعله بلا روح. لكني اكتشفت بعد حين أنها مرحلة مهمّـة جدا من مراحل ما قبل التصوير».

أسأله إن كان للفيلم رسالة ضد المنشآت النووية. على نطاق أوسع ضد السياسة النووية بأسرها.

يجيب: «نعم إلى حد بعيد. بالتأكيد هو عن أننا لا نستطيع تطويع الطبيعة، وأن علينا أن نتركها وشأنها. يقودني ذلك إلى التفكير في السلام وليس في الحرب. لقد كانت هناك عناصر من البنتاغون خلال تصوير المشاهد الحربية، وذلك للاستشارة وللتدقيق في المعلومات والكيفيات، وخلال تصوير ذلك تشعر بأن الأحداث قد تكون مجازا لحالة من الحرب الفعلية. آخر ما توده البشرية هو أن تنتهي بدمار شامل».