يحيى حلنجي.. آخر مسحراتي في جدة

بدأت حكايته منذ 80 عاما عندما كان يعمل في محل لبيع الشوربة

مهنة المسحراتي عادت إلى حواري جدة القديمة مع مهرجان «رمضاننا كده»
TT

قبل 40 عاما، ومع كل إهلالة لشهر رمضان المبارك، كان العم يحيى حلنجي المسحراتي يطل حاملا طبلته، ومترنما بكلمات وأناشيد يوقظ بها سكان حارات المظلوم والشام والبحر واليمن (أحياء في مدينة جدة غرب السعودية)، لتناول وجبة السحور.

العم حلنجي الذي امتهن التسحير وكان آخر مسحراتي في جدة، بدأت حكايته منذ 80 عاما، عندما ورثت مهنة التسحير في مدينة جدة سيدتان: إحداهما تدعى السيدة الشاطرية في حارتي المظلوم والشام، والسيدة الأخرى تسمى زينب بيرقدار في حارتي اليمن والبحر، ولصعوبة عمل المرأة في هذه المهنة أوكلتا الأمر لشخص يسمى بالعم محرم ليقوم بالمهمة.

وكانت هذه المهنة متوارثة بين العوائل، ويصدر لها صك من المحكمة لتوثيقها. ويروي وليد شلبي، المختص في تاريخ جدة القديمة، أنه عندما كان العم يحيى حلنجي صبيا يعمل في محل لبيع الشوربة بالخاصكية (أحد أحياء جدة القديمة)؛ مر عليه العم محرم وأعجب بصوته وعرض عليه العمل معه في حمل الفانوس له أثناء جولته المسائية مقابل نصف ريال يوميا، فقبل العرض وذهب للعم محرم بعد صلاة التراويح، وبدأ الجولة بحمل الفانوس، فاستهواه الأمر وأخذ يحفظ ما يردده العم محرم من عبارات مثل «مرحبا بك يا رمضان يا شهر الغفران يا شهر التراويح»، كذلك يردد أسماء الأطفال في كل بيت يمر عليه «محمد أفندي مساك الله بالرضا والنعيم». وبعد عشر ليال أصبح هو يسحّر بينما يحمل له العم محرم الفانوس كمساعدة وتدريب.

ويضيف شلبي «حدث أن اختلفت السيدة زينب بيرقدار مع العم محرم فاشتكته رسميا، ثم أسندت حصتها في التسحير إلى حسن باسل، غير أنها في العام التالي اختلفت مع باسل وعرضت التسحير على العم يحيى حلنجي، فطلب منه العم محرم قبول العرض بعد أن عرفه بحدود الحواري التي يسحر بها. وبعد وفاة العم محرم انضمت حارتا المظلوم والشام للعم يحيى وأصبح مسحراتي جدة لأكثر من أربعين عاما. وكانت المصلحة تقسم بينه وبين السيدتين مناصفة.. وهذه المصلحة تستوفى عادة خلال أيام العيد الأربعة على النحو التالي: كان يستأجر عربة يجرها حمار للف بها في الحواري لعدم توافر السيارات وقتها أو لقلتها، كما كان يستأجر عددا من الأطفال للصعود إلى المنازل وتحصيل العيدية، وكانت أجرة الطفل (خمسة قروش) يوميا، بينما العيدية عبارة عن ثياب ومشالح ومناديل وكعك ومعمول، مع شيء من القمح أو الدقيق وثلاثة أو أربعة ريالات».

‏ويذكر المختص في تاريخ جدة القديمة أن العم يحيى سرد في لقاء معه بعض المواقف التي عايشها في بدايات مهنته، منها أن العم محرم كان خلال أيام العيد يعد للأطفال طعام الإفطار، ثم ‏يفتشهم قبل بداية الجولة وتحصيل العيديات، ويقر العم يحيى بأن الطفل منهم كان يتسلم من البيوت ثلاثة أو أربعة ريالات، فيخبئ منها ريالا واحدا ويسلم الباقي للعم محرم، حيث كان ينتظرهم عند باب البيت، وحينما كانوا يصلون إلى آخر بيت يخبئ الطفل ما جمعه من مبلغ في شباك أو منور بيت، ويعود لأخذه بعد أن تعود المجموعة للعم محرم ويتم تفتيشهم مرة ثانية.

واستطرد «في يوم من الأيام حدث أن شعر العم محرم بصداع في رأسه، فطلب من العم يحيى أن يكمل التسحير في حارة الشام، وذهب هو للراحة، وبدأ العم يحيى عمله بالتسحير من أمام بيت (علي طه رضوان)، معاون قائمقام جدة، حتى أخذ ينشد (يا من هواه أعزه وأذلني)، فجرى توبيخه من قبل من كان في البيت، وما إن عاد من عمله حتى جاءه العمدة عبد الرحمن عبد الدائم ومعه شرطي وأخذاه إلى الشرطة وحُقق معه وسجن في البحرية لأنه أنشد تلك القصيدة التي اعتبرت مخلة بالأخلاق، وقد تدخل البعض بعد أيام قلائل وأطلق سراحه بعد أن تعهد بعدم العودة لإنشاد تلك القصيدة التي أصبحت في ما بعد من فنون الغناء».

وأكد شلبي أنه بوفاة العم يحيى حلنجي انتهت واندثرت مهنة التسحير منذ ما يقارب 40 عاما، وبعودة إحياء التراث في أحياء جدة القديمة قام المنظمون بمحاكاة هذه المهنة لتعريف زوار جدة التاريخية في رمضان بمهنة المسحراتي، والأناشيد التي كان يرددها.