«الطبال» المسحراتي ترك أجمل الأثر في ذكرياتي الرمضانية

فؤاد مخزومي

TT

عشت طفولتي في منطقة المزرعة البيروتية، وتحديدا في حي زريق الذي كان حيا مختلطا بامتياز يجمع المسلم والمسيحي، وهو لا يزال حتى اليوم حيا متعدد الأطياف اللبنانية. وهو الحي الذي يضم اليوم مؤسسة مخزومي، وذلك بناء على رغبة والدتي الحاجة عائشة - رحمها الله، في أن تقوم مؤسسة خيرية مكان سكننا القديم.

هذا الحي كان يرتدي ثوب الزينة الرمضانية بدءا من ليلة استطلاع هلال شهر رمضان وحتى اليوم الأخير من الشهر الفضيل. وأذكر جيدا ذلك المقهى الشعبي الذي يقع على ناصية الشارع، الذي كانت تغلق أبوابه طوال النهار حتى موعد الغروب، رغم أن صاحبه مسيحي، كان الرجال الصائمون منهم وغير الصائمين يجتمعون في المساء عنده ويروون حكايات نهاراتهم الرمضانية.

كنا نعلم بحلول الشهر الكريم مساء، عندما تباشر والدتي تحضيراتها لطعام السحور. المسحراتي أو «الطبال» - كما نسميه في بيروت - ترك أجمل الأثر في ذكرياتي الرمضانية، فقد كان مثيرا لفضول طفل لا يتجاوز الخامسة. كنت أنتظره بشوق الملهوف لكي أراه، في عباءته التراثية المزركشة وطربوشه التركي الأحمر ودقات طبلته الموسيقية التي كانت تبهج مسمعي. ولا أنسى طبعا مناداته لي بالاسم لأصحو على توحيد الخالق. بعدها، أستعد للذهاب إلى فرن الحي بعد أن تحضر لي الوالدة «كاسة» الزعتر والزيت، ليصنع لنا الخباز منها «المناقيش» اللذيذة.

كذلك، أذكر أني كنت أصوم ساعتين أو ثلاثا عند بلوغي السادسة، وتطورت الأمور لأصوم نصف النهار في سن السابعة، وذلك كنوع من تحضيري من قبل والدي الحاج مصطفى والحاجة عائشة - رحمهما الله - للتعرف على الصيام واعتياده والتعلق بعاداته.

وقد بقيت ساعات الصيام هذه محفورة في ذاكرتي، فقد شهدت مثيلا لها مع إخوتي الأصغر مني سنا فيما بعد، كما أنها كانت تترافق مع حكايات جدي وجدتي عن الشيخ الذي سيجمع لي ساعات صيامي هذه، كي أستحق العيدية في نهاية الشهر عند حلول العيد.

وأمتع اللحظات على الإطلاق كانت قبيل مدفع الإفطار، إذ كنت أقضي الوقت في قراءة مجموعة كتب الأديب المصري عباس محمود العقاد حول السيرة النبوية الشريفة والصحابة، فلا ينتهي رمضان إلا وأكون قد قرأت السلسلة كاملة. ولا أنسى لهفة أمي على تعليمنا أصول الصيام، مستغلة الشهر الكريم لزرع تعاليم الإسلام السمح فينا.

بعدها، كنت أجلس وإخوتي ووالدي - رحمهما الله - قبيل مدفع الإفطار بقليل، إلى طاولة الإفطار التي لا بد لها من أن تشمل الشوربة والفتوش والطبق الرئيس من اليخنة.

في أيام العطل، كنت وإخوتي نمضي بضع ساعات في تعلم تلاوة القرآن الكريم بالمسجد القريب من دارنا، حيث كنت أرافق جدي لأمي الحاج إبراهيم زيدان لنصلي الجمعة في رحابه. وفي العيد، كنا نذهب إلى «حرش بيروت» الذي كانت تغطيه أشجار الصنوبر، حيث تنصب الأراجيح عند مداخله الخارجية.

اليوم، أتذكر طفولتي هذه في «ساحة التكافل» بفردان، حيث طورنا في «مؤسسة مخزومي» التي تترأسها زوجتي مي فكرة «رمضانيات بيروتية» إثر وفاة ولدنا الحاج رامي - رحمه الله، وعن روحه الطاهرة يتم توزيع الآلاف من الحصص الغذائية ونستقبل المئات من العائلات البيروتية لإعادة أجواء رمضان الإيمانية وروح الإسلام الخيّر وأجواء المحبة والتسامح تظلل بيروت بإذن الله. وكل عام وأنتم بخير.

* رئيس حزب الحوار الوطني اللبناني