السينما اللبنانية تتسلل عبر ثغرات الواقع المر وتنجح

عاشت طويلا من دون صناعة

نادين لبكي
TT

يأتي موسم المهرجانات ويأتي معه الحديث عن المألوف: السينما العربية أين هي وإلى أين تتجه؟ ما حاضرها وما مستقبلها؟ هل هي مستمرة كما لو كانت رحلتها قدرا مكتوبا عليها أن تؤمه أو هي بالفعل تتطور وتتحسن وتزداد حضورا؟

حيث تكمن مهرجانات عربية، يكمن الحماس لها. مهرجان أبوظبي السينمائي الذي انطلق يوم أمس (الخميس) يعرض منها مجموعة طيبة من بينها 7 تسجيلية. مهرجان دبي (الذي يعقد في الأسبوع الثاني من ديسمبر «كانون الأول» المقبل) عُرف ببيت السينما العربية، كونه يستطيع، بفضل برمجته، استيعاب قدر أكبر.

مهرجان القاهرة العائد إلى أحضان العاصمة يبني أيضا مكانته على استقبال الأفلام العربية الجديدة، راغبا في لعب الدور الذي سبق له أن لعبه جيّدا منذ أواخر الـسبعينات وحتى مطلع هذا القرن، وهو أن يستقبل أفضل ما لدى السينما العربية من أعمال.

أما مهرجان قرطاج التونسي، فهو قائم على المناصفة بين الأفلام العربية والأفريقية غير العربية. عبر هذا التزاوج حفر لنفسها مكانة منفردة تأثرت بعوامل التفتت، ويحاول الآن، شأنه في ذلك شأن مهرجان القاهرة، العودة إلى الأضواء، ولو أن حظه منها قد يتأخر لما بعد حل العقد السياسية التي تمر بها البلاد هناك.

إنها عقد منتشرة على أكثر من جبهة. معظم الدول المنتجة للأفلام العربية تعايش أوضاعا غير مستتبة، وحجم هذا الاضطراب يختلف من دولة إلى أخرى. على ذلك، فإن نسب الإنتاج ليست، في السنوات الأخيرة، مرهونة بحجم المشاكل الداخلية، فالأوضاع داخل مصر التي هي أفضل من سواها بمراحل عديدة لم تمنع عودة السينما التجارية ولا استمرار السينما التي يقدم عليها سينمائيون جدد يرغبون في تشكيل واجهة جديدة للسينما المصرية. ولا نزال نسمع عن أفلام سورية وعراقية رغم أن الدمار المدني والاقتصادي والاجتماعي مهول. ورغم كل المشاكل التي يعايشها الفلسطينيون، فإنها لم تمنع مخرجيها من تحقيق أفلامهم المختلفة خلال السنوات الـ5 الأخيرة.

بدورها، تعرف السينما اللبنانية نشاطات متواصلة. في بعض السنوات، كالماضية، ترتفع نسب الإنتاج أعلى من سنوات أخرى، لكن الإنتاج قلّما يتوقف.

* أمواج الشاطئ

* السينما اللبنانية في الواقع المقياس الخفي للسينما العربية عموما. من ناحية، هي كالجزائرية والتونسية والأردنية والإماراتية وسواها لا تملك سوى سوقها المحلية وما تُدعى إليه من مهرجانات عربية. من ناحية أخرى، تبدو ظلالا للسينما المصرية من حيث إنها تستطيع تحقيق نجاح أعلى في موطنها من حين لآخر، كما تفعل الأفلام التجارية المصرية مع اختلاف النسب طبعا.

هي تتأثر بالداخل، كما تفعل السينمات المحلية الأخرى، ولا تتأثر بالخارج لأنه لا سوق لها في العواصم الأخرى أساسا. بعض أمواجها تصل إلى الشواطئ الأخرى، كما فعلت أفلام نادين لبكي وبعض أفلام فيليب عرقتنجي حين عرضت، ولو على استحياء، في الصالات الخليجية. لكن هذا البعض لا يشكل تيارا ولا منافسة وفي كثير من الأحيان يتوقف ذوق الموزع التجاري على ما إذا كانت أسعدت جمهور المهرجانات إلى حد لا يمكن معه سوى منحها فرصة العرض في سوق الإمارات أو في السوق المصرية (هذه الأخيرة هي دوما الأصعب).

لكن بعض أفضل ما جرى إنتاجه لبنانيا لم يرَ نور العرض إلا من خلال شاشات مهرجاني دبي وأبوظبي وبضعة مهرجانات محدودة أخرى.

خذ مثلا «نادي الصواريخ اللبناني» (2/ 2013) الذي حققه الزوجان الموهوبان جوانا حاجي توما وخليل جريج: عمل تسجيلي رائع جيد الصنعة والفكرة، ويكشف ما قد لا يُـصدّق؛ لبنان في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات شارك في طموح إرسال إنسان إلى الفضاء. أطلق على الأقل صواريخ فضائية. ككل فيلم جيد، الفكرة لا تستطيع أن تعيش وحدها. قدرة المخرجين على اختيار الأسلوب الصحيح لما يعرضه. وهنا كان الأسلوب شيقا، بسبب الفكرة ورشيقا، بسبب كيفية «فلترتها» في مشاهد موحية، ومشبعا، نـظرا للرغبة في تقديم مادة جديدة تستفيد من غزارة المعلومات التي لم تُـنشر أو تنتشر من قبل.

* استمرار

* على نطاقه، جاء فيلم زينة دكاش في العام الماضي، وعنوانه «يوميات شهرزاد»، تعبيرا عن موهبة كبيرة لا تحتاج إلى تطور وتطوير. فيلمها التسجيلي دار حول مجموعة من النساء اللواتي يعشن داخل سجن بعبدا اللبناني ويتحدثن للكاميرا عما أودى بهن إلى السجن. معظمهن لا تنفي التهمة، والكثيرات تأقلمن واعتبرن أن السجن بات البيت والنزيلات حللن محل العائلة. لكن هذا بدوره لا يصنع إبداع العمل، بل طريقة إخراجه وطرحه للمسائل. التصوير المحلي بما تستخرجه زينة دكاش من تلك الأنفس لتضيف عليها المزيد من البعد الإنساني عندما تقوم بتدريب النساء على القيام بأداء مسرحية واستعراض أمام مدعوين من خارج السجن.

ما قام به الفيلم هو بلورة الموهبة المخفية كون المخرجة اللبنانية تعالج الجريمة بالفن؛ تدرّب النساء على الفلامينغو والإلقاء وسبر الغور لاستخلاص الموضوع الذاتي الذي ستعبر عنه، فإذا بعدد كبير منهن يبدين أكثر مما هو متوقع وعلى نحو يفجّر مواهب شخصية في كل ذات. كاميرا جوسلين أبي جبرايل أكثر من حاضرة لقراءة الوجوه والتعابير وتفاصيل الحركة المعبرة عن إحساس اللحظة. تمنح الفيلم في ديكوره الداخلي الذي لا يمكن التعامل معه إلا من حيث إنه ديكور سجن، الكثير من الحضور لونا وإضاءة. وفي مرات تترك كل شيء وتسجل صورا من الحاضر فاتحة خطا موازيا لما يقع.

إبداع المخرجين اللبنانيين متعدد. هناك عدد مهم من السينمائيين الذين أبدوا قدرات كبيرة في السنوات الـ10 الأخيرة: مي المصري، غسان سلهب، فؤاد عليوان، جان - كلود قدسي، محمود حجيج، ميشيل كمون، نادين لبكي، سارة فرنسيس وكثيرون غيرهم.

ليس الأمر تعصبا ولا تفضيلا. هناك مواهب مماثلة أو أقوى في غالبية الدول المنتجة حاليا للأفلام. لكن تبعا لحقيقة أن السينما اللبنانية عاشت طويلا (الثانية في تاريخ إنتاج الفيلم العربي بعد مصر) من دون أن تمتلك صناعة متكاملة، فإن المثير للدهشة دوما هو كيف تستطيع أن تستمر. لكنها استمرت، وفي تاريخها قدمت مواهب كثيرة، بعضها (مثل مارون بغدادي) رحل، وبعضها لازم الأمس، واكتفى (برهان علوية)، لكنها جميعا ساهمت في إذكاء الرغبة في الاستمرار.

وثمة ملاحظة مهمة في هذا السياق، وهي أنه في الوقت الذي عاش لبنان حربا أهلية دامت 16 سنة، فإن منوال إنتاج الأفلام التي صُوّرت خلال تلك الحرب (تجارية وغير تجارية) لم ينقطع تماما. وعلى عكس الحروب الأخرى حوله الآن، وما حدث لبعض دول المنطقة منذ انتهاء الحرب اللبنانية ذاتها، فإن المساحة كانت كافية لإنتاج أفلام من كل صوب وموقف. ففي حين تعددت الجهات التي تقاتلت على السيطرة على 10 آلاف كيلومتر مربع، تعددت أيضا المواقف خلالها، ولو أن معظم ما أنتج من أفلام خلال الحرب وبعده كان مناوئا لها.

* جيل يستحق التقدير

* في عام 1968 انطلق 5 مخرجين شبان يحققون أعمالهم الأولى في صرح السينما اللبنانية، وهم جورج شمشوم ورفيق حجار وسمير الغصيني وتيسير عبود وسمير خوري. ما هي إلا سنوات حتى اندلعت الحرب وغادر البعض وبقي البعض الآخر. لكن هذا الجيل ترك تأثيرا نوعيا إلى حد وعدديا أيضا، وسبق الجيل الجديد الذي انطلق بعدما وضعت الحرب أوزارها.