مصابو إيبولا في ليبيريا يتحولون فجأة إلى مفقودين

عائلات تقضي أسابيع بين المستشفيات بحثا عن ذويهم المختفين بفعل انهيار النظام الصحي في البلاد

TT

قدمت ليندا ويلسون إلى بوابة مركز علاج إيبولا، لليوم الـ29، بحثا على أفضل صديقاتها، حاملة في حقيبة يدها صورة لتلك المرأة، حتى تتمكن من عرضها على الحراس أو الممرضات أو أي شخص آخر يمكنه المساعدة. وسألتهم ويلسون بقولها: «هل رأيتموها؟». وظلت الإجابة بالنفي لليوم الـ29، إذ لم يكن اسم باربارا باي على أي قائمة من القوائم، على الرغم من دخولها المستشفى قبل شهر. لا توجد سجلات حول وفاتها أو نجاتها لدى أي مستشفى في العاصمة الليبيرية مونروفيا، إذ كانت المرأة واحدة من بين أناس كثيرين اختفوا إثر انتشار وباء إيبولا في تلك المدينة.

مزق وباء إيبولا تلك المدينة في سرعة عجيبة حتى أن بعض المرضى اختفوا داخل النظام الصحي المنهار أصلا، ومن دون أي أدلة أو مستندات من أي نوع. وهناك آخرون تم استقبالهم في عيادة ما وجرى نقلهم إلى عيادة أخرى دون أي إخطارات. وأحرقت جثث مئات المرضى المتوفين دون إعلام ذويهم بأنهم ماتوا من الأصل.

وصلت أنباء تلك الوفيات إلى مسامع العالم. فقد حصد وباء إيبولا أرواح نحو 2500 في هذه البلاد، غالبيتهم من مونروفيا. لكن الوباء خلف وراءه نوعا آخر من الأحزان والآلام لأولئك الذي فقدوا أصدقاءهم وأقاربهم. ينجو نحو 30 في المائة من مصابي إيبولا، وهي النسبة التي يتيه كثيرون بشأنها. فهي تعد نسبة مرتفعة بما يكفي لتبث شيئا من الأمل كما تغذي مشاعر الريبة وعدم اليقين.

وتعكس هذه الحالة واقع نظام صحيا استهلكه طغيان الفيروس الشرس حتى أنه فقد آثار من نجا ومن قضى نحبه على حد سواء. تعمل الولايات المتحدة وغيرها من الدول والمنظمات المانحة، مع حكومة ليبيريا، من أجل تحسين نظام السجلات الطبية لديها، إذ بدأت بعض العيادات والمستشفيات في نشر مزيد من القوائم الصحيحة لحالات الوفاة على جدران المستشفيات، حيث تتجمع العائلات الآن، ويصيبهم الانهيار المشبع بدموع الألم فور ظهور أسماء ذويهم.

لكن كثيرين منهم يغادرون دون أي إشارة تدل على أماكن ذويهم. وقالت ويلسون أثناء مغادرتها لعيادة آيلاند كلينيك، وهي المركز الرئيسي المخصص لعلاج إيبولا: «ليست لدي أي معلومات».

يقضي الأقارب والأصدقاء الساعات الطوال كل يوم خارج عيادات علاج إيبولا الأربع المنتشرة في المدينة؛ بعضهم يأتي للدعاء، وأكثريتهم غير متأكدين ما إذا كانوا في المكان الصحيح من عدمه. ينتظرون ساعات الزيارة، ويرابطون في أماكن خاصة ومنفصلة، حتى لو لم يظهر ذووهم الذين ينتظرونهم. يراجعون قوائم المرضى، حتى على الرغم من أن تلك القوائم في الغالب غير مكتملة، ويسألون الممرضات طلبا للمساعدة، حتى مع أن تلك الطلبات لا تعود عليهم بشيء.

علمت ويلسون (36 عاما)، بعد مرور نحو شهر، أن فرص نجاة صديقتها باي باتت ضئيلة. ولكن من غير أي تأكيدات، ظلت تتصور صديقتها وهي تغادر بوابات مركز العلاج، وتنطلق مرة أخرى إلى حياتها كما لو كانت لم تمرض قط.

صار الحديث مع عائلات الأشخاص المفقودين بمثابة وظيفة ثانية لموظفي المستشفى في عيادة آيلاند كلينيك، وذلك بسبب صعوبة وصولهم إلى الأجنحة المعزولة في المستشفى. فخلال الأسبوع الماضي، تحدث برينس نايوما مع موظف تلو الآخر حاملا صورة لشقيقته تصورها بابتسامة عريضة وقلادة ذات لون فيروزي. كانت المفقودة قد انتقلت إلى العيادة المذكورة قبل 3 أيام، وقبلها كانت تتشارك شقة مع امرأة توفيت متأثرة بمرض إيبولا. وقال نايوما «نريد أن نعرف، حتى لو كانت قد ماتت، فقط نريد أن نعرف». وقال أحد الرجال من إخصائي الرعاية الصحية في سرية «إنها بخير، هي نائمة الآن». بدا نايوما مطمئنا بذلك، وانطلق إلى مجموعة من باقي أعضاء العائلة ليطلعهم على الأخبار.

لكن حقيقة الأمر أن إخصائي الصحة ذلك، الذي أحجم عن ذكر اسمه، لم يكن أكيدا مما قال. فعندما يتواجه مع عائلة يائسة، يضطر أحيانا للكذب، ويقول لذويهم إنهم بخير، حتى لو لم يكونوا كذلك. ويقول: «لا أريد أن أكون ذلك الشخص الذي ينقل إليهم أسوأ الأنباء».

دعت ويلسون صديقتها باي لدى مستشفى الفداء في منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي عندما كان المستشفى يعج بالمرضى وتتناثر في أرجائه جثث المتوفين. لم تكن متأكدة من إصابة صديقتها بمرض إيبولا، غير أن حالة الحمى والقيء لدى باي كانت تتفاقم، وقال أطباء المستشفى إنه ينبغي عليها البقاء هناك تحت الملاحظة. أخذت ويلسون ابنة صديقتها باي البالغة من العمر (17 عاما) وتسمى غريس للعيش معها. وبعد بضعة أيام، تلقت ويلسون مكالمة هاتفية من صديق يعمل في مستشفى الفداء، حيث تم نقل الكثير من المرضى، بمن فيهم باي، غير أنه لا يعرف إلى أين نقلوهم. قفزت ويلسون في سيارتها، وكان ذلك هو أول يوم في رحلتها للبحث عن صديقتها المريضة.

في مونروفيا، لا تزال الشوارع مزدحمة، ولا تزال الأسواق تعج بالرجال الذين يبيعون الأسطوانات المدمجة، وبالنساء اللاتي يبعن الفاكهة وأكياس الأرز. تنفجر أصوات الموسيقى الصاخبة من السيارات، تقريبا في كل مكان. وبعد الغروب، ينطلق الراكضون للجري على طول الطريق الموازي للشاطئ.

أما بالنسبة لمراكز علاج إيبولا الأربعة، فهي في عالم آخر تماما. فكل منها محاط بسياج عال ومحصنة للغاية. وعندما يصل الأقارب، يطلب منهم الانتظار في الخارج مع عائلاتهم. ويشاهدون عبر السياج رجالا ونساء يرتدون ملابس تشبه سترات رواد الفضاء تغطي أجسادهم بالكامل، وأحيانا ما يطرحون عليهم الأسئلة من خلال السياج.

عندما يتم الإفراج عن الناجين من المرض، وغالبا ما يبدون مشوشين وفي سبات عميق، فإن العائلات بالخارج يدققون في وجوه القوم بحثا عن ذويهم. وحينما تعرف إحدى العائلات أن أقاربهم وافتهم المنية، ينطلقون في نحيب سريع يبدو أنه يأتي من كل الأماكن هناك.

قسمت ويلسون وقتها بين العيادات في المدينة في بحثها عن صديقتها باي، التي تخلى عنها زوجها من قبل أن يجتاح وباء إيبولا دولة ليبيريا. كانت ترتدي قبعة لونها بيج لتحتمي بها من الشمس أثناء الساعات التي تقضيها بالخارج في الانتظار.

عظام الفك لدى ويلسون بارزة، ولديها عيون بنية اللون وواسعة، وذات صوت أنثوي. التقت مع باي في الكنيسة حينما كانتا مراهقتين. عاشتا معا لسنوات، وكانتا تعرفان نفسيهما إلى الآخرين باعتبارهما أختين.

أصيبت باي (36 عاما) بالمرض في الوقت الذي غرق النظام الصحي في ليبيريا بطوفان مرضى إيبولا. لم يكن مستشفى الفداء مجهزا لعلاج ذلك المرض، ولذا تحول إلى مركز احتجاز لأولئك الأشخاص مثل باي، حتى تأتي نتائج اختباراتهم. فإذا جاءت النتائج إيجابية، يجري نقل المرضى إلى أحد مراكز علاج إيبولا الأربعة بالمدينة. «ولكن أي مركز؟» كما تتساءل ويلسون.

لا أحد يعرف، إلا إذا كان المريض ذا صحة كافية لإجراء مكالمة هاتفية من هاتف مقترض أو يشير إلى أقاربه من مركز الزيارات المنفصل. وتعود ويلسون إلى منزلها في كل يوم لتبكي في خزانة ملابسها، حتى لا تسمع ابنة باي نحيبها.

تلقى نايوما مكالمة هاتفية قبل أيام من جهة ما بالمستشفى. فقد صار سرير أخته هناك فارغا على نحو مفاجئ. انطلق سريعا إلى عيادة آيلاند كلينيك وسأل الجميع عله يعرف ما حدث، غير أنه لم يجد أحدا على علم بشيء. عثر على عضو من فريق جمع الجثث، المسؤولين عن التعامل مع الوفيات، وسأله أن يبحث عن شقيقته بين أكياس جثث الموتى التي كان ينقلها بعيدا إلى المحرقة، وهو إجراء للتخلص من جثث المرضى المتوفين جراء الوباء فرضته حكومة البلاد.

لم يرجع عضو الفريق إليه بشيء، لكن سرعان ما توقفت شاحنة صغيرة محملة بالجثث، وانفجرت الدموع من عيني نايوما. التقط صورة لكومة الحقائب. وبعد أيام، كان لا يزال غير متأكد مما إذا كانت جثة شقيقته بين تلك الحقائب أم لا.

كذلك، جاءت مكالمة ويلسون متأخرة بعد 34 يوما من البحث، حيث أجرى أحد الممرضين في عيادة آيلاند كلينيك بعض البحث ووجد أن باي توفيت. لم يتمكن أن يحدد التاريخ، لكنه تأكد فقط أن جثتها انتقلت إلى المحرقة، حيث يتم حرق الجثث في المساء في مجمع خاص لذلك يقع خارج المدينة.

انفجرت ويلسون في البكاء. لقد كانت أفضل حالا بالخبر اليقين بعد كثير من الوقت ضاع في البحث والنظر من خلال الأسوار، بحثا عن امرأة وافتها منيتها قبل أسابيع. لكن تلك الأنباء لا تزال محبطة للغاية. سمعت عن مراسم كبيرة يخطط لها لحرق كافة ضحايا مرض إيبولا في ليبيريا. ولكن لن تقام تلك المراسم حتى يتلاشى المرض بعيدا، وهي نقطة مستقبلية يصعب توقع ميقاتها في مدينة مونروفيا الآن. أي نوع من التأبين يمكن أن تقدمه لذكرى باي الآن؟ من دون جسدها أو حتى بعض الحقائق حول وفاتها. يصعب التفكير في أي شيء. وقالت ويلسون «لا أستطيع القول إنها كانت صديقتي فحسب، بل كانت أختي. ولكن علي المحاولة.. أنا أمضي قدما في حياتي».

• خدمة «واشنطن بوست» • خاص بـ«الشرق الأوسط»