«كابوس» طرابلس ينتهي بعد 18 ساعة دامية داخل الأسواق الأثرية

مصادر لبنانية لـ («الشرق الأوسط») : تسوية مهدت لخروج آمن للمسلحين مقابل إطلاق رهائن

TT

انتهى الكابوس الطرابلسي، بعد ظهر أمس، بأقل الخسائر الممكنة. فبعد ما يزيد على 18 ساعة من الاشتباكات العنيفة والدامية بين الجيش اللبناني ومجموعة من المسلحين تحصنوا داخل الأسواق التاريخية القديمة في مدينة طرابلس، شمال لبنان، نجحت وساطات في التوصل إلى اتفاق ينص على فتح ممر آمن للمسلحين ليخلوا الأزقة التي اختبأوا فيها، مقابل الإفراج عن رهائن احتجزوهم من المدنيين.

وأسفرت معارك اليوم الدامي في طرابلس عن إصابة 8 عسكريين بينهم ضابط برتبة ملازم وعدد من المدنيين، كما قتل واعتقل عدد من المسلحين.

وقال مصدر ديني مطلع، رفض الكشف عن اسمه، لـ«الشرق الأوسط»: «كان لا بد من التوصل إلى اتفاق بعد أن اتخذ المسلحون من بعض الأهالي الذين احتجزوا في منازلهم، رهائن هددوا بإيذائهم». وأضاف أن «هيئة العلماء المسلمين ووزير العدل أشرف ريفي تدخلا للتوصل إلى هذا الاتفاق الذي قضى بالإفراج عن الرهائن مقابل ترك المسلحين يخرجون من الأسواق دون التعرض لهم». ووصف المصدر التسوية بـ«الحل العقلاني» لأن «مطاردة المسلحين بعد خروجهم من الأسواق أفضل من فتح معركة داخل المنطقة القديمة، لا يستطيع احتمالها أحد».

من جانبها، أكدت مصادر الجيش اللبناني، بعد هدوء الاشتباكات وتواري المسلحين ودخول فرق الإسعاف، أن «معركة ملاحقة المسلحين الإرهابيين في طرابلس مستمرة ولا تراجع إلا بعد القضاء عليهم، ولا تسهيلات لهم، وسيجري إطلاق النار عليهم فور رؤيتهم». وبالفعل استمرت عمليات الدهم ومطاردة المسلحين في طرابلس خصوصا في منطقة خان العسكر والزهرية، حيث دوهم منزل ربيع الشامي (أحد الناشطين الإسلاميين) وأوقف بعد العثور في منزله على أسلحة وذخائر ومخزن لمعدات طبية كان يستخدم لعلاج المسلحين. كما دوهم منزل الموقوف أحمد سليم ميقاتي وضبطت بداخله كمية كبيرة من المتفجرات. جدير بالذكر أن معارك طرابلس كانت اندلعت بعد أقل من 48 ساعة من اعتقال هذا الأخير بعد عملية أمنية نوعية نفذها الجيش، في بلدة عاصون، في منطقة الضنية الجبلية، ضد خلية إرهابية بقيادته، قتل خلالها ثلاثة أشخاص بينهم جندي منشق وألقي القبض على ميقاتي «صاحب السوابق المتعددة».

وتجمع الروايات على أن معارك طرابلس التي اندلعت نحو الساعة التاسعة من مساء الجمعة، جاءت بينما كان يحاول الجيش استكمال عمليته الأمنية بدهم منزل الموقوف ميقاتي، في خان العسكر عند أحد مداخل السوق. ويروي مصدر مطلع على ما حدث لحظتها بالقول «لم تناسب حسابات الحقل حسابات البيدر، وبدلا من أن تجري المداهمة وينتهي الأمر استنفر آل الميقاتي الذي يسكنون المنطقة بعد مساندة من مسلحين من عدة مناطق وهاجموا الجيش من عدة أماكن، وأثناء الرد عليهم انسحبوا إلى داخل الأسواق وتحصنوا فيها».

واختلفت التقديرات حول عدد المسلحين وهوياتهم، إذ قدر البعض عددهم بـ50 مسلحا، بينما قال آخرون إن العدد وصل إلى مائة، لكن من شبه المؤكد أن من بينهم سوريين، حسب مصادر مطلعة، وأنهم لم يجدوا خلايا أخرى تهب لنجدتهم، من مناطق أخرى، خاصة باب التبانة أو باب الرمل على سبيل المثال.

وأوضح المصدر الديني المطلع بشأن عزوف مجموعات متعاطفة لنجدة المسلحين، قائلا «هناك تعاطف نعم، لكنهم لا يتبعون هيئة تنظيمية واحدة، وبالتالي فإن مجموعة شادي مولوي وأسامة منصور (إسلامية متشددة) في باب التبانة لم تذهب إلى الأسواق للمساندة. والخبر الذي تردد عن إصابة المولوي في كمين للجيش يفيد بأنه أصيب في التبانة وليس خارجها»، أي ليس في الأسواق.

وأظهرت المعارك أن حجم الخلايا النائمة في طرابلس، التي لطالما حذر منها المسؤولون الأمنيون لخطورتها، هي أقل كثيرا مما روج له، بدليل أن مجموعة الأسواق لم تلق احتضانا من أحد. غير أن هناك من يتخوف من أن تكون معركة الأسواق مجرد جس نبض للجيش اللبناني، قبل فتح معارك أكبر تكشف فيها الهويات والوجوه، وتدخل فيها «المجموعات الإرهابية» بكل ثقلها.

وكانت معارك حامية الوطيس دارت مساء الجمعة، وطوال الليل، في الأسواق القديمة والمناطق المحيطة بها، استخدمت فيها القذائف الصاروخية والرشاشات والقنابل، ومشط الجيش مناطق خان العسكر والدباغة والبازركان والتربيعة وساحة النجمة، والرفاعية الخياطين النحاسين، والجسر، وتحت التل وسط طرابلس، مضيقا الخناق على المسلحين. واستغل المسلحون طبيعة الأسواق بأزقتها الضيقة وزواريبها الكثيرة، ومساربها غير المعروفة لكثيرين، ليبقوا معاركهم مشتعلة طوال ليل الجمعة - السبت، مما أسفر عن تضرر عدد كبير من السيارات والمحال التجارية واحتراق عدد منها. وفاحت روائح القماش المحترق في ليل طرابلس على مسافة بعيدة من السوق، فيما شوهدت من بعيد السن اللهب ترتفع عاليا والدخان سحبا، دون أن تتمكن فرق الإطفاء من دخول المنطقة أو سيارات الإسعاف.

ومع انبلاج الصباح بعد ليل صعب وطويل، عقد اجتماع في منزل مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار، حضرته فعاليات سياسية وأمنية، تحدث بعده رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي، وقال «أكدنا مجددا أن طرابلس لا تقبل ولا ترعى أي فئة أو جهة إرهابية، وفي الوقت ذاته فهي تدعم الجيش في خطواته لكي يستتب الأمن في المدينة، مع الأخذ في الاعتبار الحفاظ على أرواح المواطنين البريئة وحماية الأسواق التجارية التاريخية التي تشكل تراثا تاريخيا مهما علينا الحفاظ عليه». وأجرى المجتمعون اتصالات مع المعنيين وفي مقدمهم رئيس الحكومة (تمام سلام) الذي وضع في أجواء الأحداث وتم التشاور معه حول الإجراءات المفترض اتخاذها».

وكانت طرابلس تستعد، أمس، للقاء تشاوري وطني تعلن على أثره ثوابتها الوطنية في وجه الإرهاب، رغبة في قطع الطريق على المخربين والعابثين، إلا أن الأحداث استدعت تأجيله. كما عقد وزير العدل اجتماعا لوزراء ونواب في المدينة، في دارته، أكد بعده أن «طرابلس ليست ساحة صدى لما يحصل في سوريا والعراق، ثوابتنا ستبقى هي الحفاظ على العيش المشترك، والتنوع، ومنع أي كان من زعزعة الأمن في طرابلس. نحن إلى جانب الدولة الشرعية، وأي تحرك مسلح خارج إطار الشرعية لا نغطيه، نحن بيئة حاضنة للجيش».

ومن جانبه، تابع رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري تطورات الأوضاع الأمنية في المدينة، وأجرى سلسلة اتصالات شملت سلام وريفي ومفتي طرابلس، وتشاور معهم، مؤكدا دعمه للحكومة والجيش والقوى الأمنية والعسكرية في مهماتها لإعادة الأمن والاستقرار إلى عاصمة الشمال. كما أجرى اتصالا بقائد الجيش العماد جان قهوجي، وهنأه بنجاح الجيش في ضبط الخلية الإرهابية في بلدة عاصون، مكررا دعمه الجيش اللبناني في مهامه لمكافحة الإرهاب.

واستعان الجيش بطوافات لاستكمال معاركه خلال ساعات النهار، كما قطعت خدمة «3 جي» عن الهواتف الجوالة، أثناء فترة المداهمات، وحيا الجيش أهالي طرابلس على وقفتهم إلى جانبه ودعم مهمّته، مؤكدا «مضيّه قدما في عملياته العسكرية حتى القضاء على المسلحين ومنع جميع المظاهر المسلحة في المدينة». ودعا المواطنين «إلى التجاوب التام مع الإجراءات التي تنفذها وحداته تباعا، وإبلاغ المراكز العسكرية عن أي حالات مشبوهة، وذلك حفاظا على سلامتهم».