«الأصولية الشيعية الحركية».. اليقظة من «الأوهام» النضالية

حداث الشغب التي افتعلها مريدو الواعظ المعمم المتطرف «نمر النمر» أعادت «حركيي الإسلام السياسي الشيعة» إلى المشهد

TT

أعادت الأحداث المتناثرة من الشغب والاعتداءات المسلحة في قرية العوامية شرق السعودية أخيرا، «الإسلام السياسي الشيعي» إلى واجهة المشهد المحلي، بعد الحكم القضائي الصادر على الواعظ الحركي المعمم نمر النمر، والقاضي بالإعدام بسبب تُهم وجهت له تمس الأمن القومي السعودي، وهو الذي قُبض عليه بعد مقاومة مسلحة لرجال الأمن.

عمليات الشغب في بعض قرى المنطقة الشرقية، في السنوات الثلاث الأخيرة، عمر الربيع العربي، كانت انعكاس ظل لافتعال حالات الانفلات الأمني وصعود القوى الأصولية في المنطقة، من «إخوان مسلمين» وجماعات العنف الدينية المسلحة، سنية وشيعية. وفي عجالة تاريخية، لا بد من التذكير أن الثورة الإيرانية كانت فاتحة شهية لتطورات المنطقة التي ستحمل في طياتها دمغة الخلط بين الدين والسياسة في جديلة، لا يبدو أن المنطقة ستتخلص منها قريبا.

صدر نظام الولي الفقيه في طهران «ثورته الخمينية» لدول الجوار وتدخل فيها، وأنشأ علاقات مع القوى الراديكالية في المنطقة وأشهرها الإخوان المسلمون، الوجه الآخر للإسلام السياسي، وأنشأ ذراعه العسكرية في لبنان («حزب الله») الذي يصرح علانية أمينه العام حسن نصر الله بولائه لطهران، متجاوزا ولاءه الوطني اللبناني.

وواصل النظام الإيراني مشروعه في تطوير قدراته النووية العسكرية، التي جوبهت بعقوبات قاسية من المجتمع الدولي، عندما كانت واشنطن تتسم سياستها بالمجابهة، قبل أن تتحول أخيرا إلى سياسة أكثر ليونة، سمحت لطهران بالتمويه بإنشاء علاقات ملتبسة مع قوى المنطقة.

وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، التي أسقطت صدام حسين وطالبان.. هذا الفراغ السياسي خلق حالة من النهم الجيوسياسي لدى صانع القرار في العاصمة الإيرانية.

ابتلعت العراق سياسيا، وسيطرت على القرار الصادر من دمشق لدرجة أنها ترسل أبناءها اليوم في ميليشيات عسكرية ليموتوا دون أبوابها؛ السقوط الذي سيعني قطع المدد البري لذراعه العسكرية في بيروت («حزب الله») الذي تشارك مع نظام بشار الأسد في قتل ما يزيد على 200 ألف سوري بحسب آخر الإحصاءات الدولية.

في سرد تحليلي للقيمة الجيوسياسة السورية لإيران، كتب رودجر شاناهان، الباحث في «معهد لوي للسياسات الدولية»، في مقالة بحثية تحت عنوان: «ماذا تعني سوريا لشيعة المنطقة؟» منشورة في موقع «صدى كارنيغي»: «على الرغم من الأبعاد الدينية أو المذهبية الكامنة في النزاع، فإن تصوير سوريا على أنها محور للجهاد الشيعي الدولي ينطوي على سوء فهم للدوافع التي تحرك الأفرقاء المتورطين في النزاع. فإيران تنطلق أساسا من حسابات سياسية؛ فقد استثمرت في سوريا في إطار جهودها الإقليمية الهادفة إلى إرساء دائرة نفوذ واسعة قدر الإمكان. ويقدم الشيعة المؤيدون لنظرة إيران العالمية الدعم العسكري لنظام الأسد انطلاقا من السبب عينه».

بالعودة للمشهد الحالي لصعود موجات الأصولية المتشيعة سياسيا، التي كانت مشعلة حرائق في المنطقة بامتياز، فقد تبنت طهران حراك جماعات «الإسلام السياسي الشيعي» في البحرين لتقويض النظام الملكي، ودعمت الحوثيين في اليمن، وتحالفت مع القوى الأصولية مثل «الإخوان المسلمين» وأذرعها المختلفة حول العالم، وباتت حاضنة لقيادات تنظيم القاعدة، التي تقاتل أتباعهم في سوريا والعراق.

الأقلية السعودية الشيعية، والمتأثرون منهم بـ«الإسلام السياسي الشيعي الحركي»، لم تكن استثناء في المنطقة، وإن كان التأثر بدرجة أقل كثيرا من محيطها.

في هذا السياق يقول كامل الخطي، الكاتب والباحث السعودي، وأحد أبناء مدينة القطيف شرق السعودية في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «سأبدأ أولا بتحرير مصطلح (الأصولية الشيعية) من ارتباطه بالسياق العام لمعنى (الأصولية)، وسأعيد وضعه في سياقه الأصلي؛ إذ إن (الأصولية) عند الشيعة الاثنا عشرية تعني (الاجتهاد) الذي يُقْصَدُ به - ضمن جملة مقاصد - عدم جواز تقليد الميت ابتداء، وإن المُكلَف (الأصولي الشيعي) عندما يبدأ اختيار من يعود له بالتقليد من المراجع، عليه أن يختار أحد المراجع الأحياء. قَصَدْتُ بهذا الإيضاح إزالة اللبس عن المصطلح، بل الاستغناء عن استخدامه تماما عند الحاجة لوصف متشددي الشيعة، وسأستعيض عنه بمصطلح (الحركيين الشيعة) بغرض الدقة والموضوعية».

ويزيد: «الذين يشار إليهم بوصفهم قيادة لهذا (الحراك)، هم منتسبو تنظيم إسلامي سياسي شيعي سبق أن تصالح مع الدولة، وعادت قيادته وكوادره من الخارج لتنعم بامتيازات وهبات وعطايا، وحملة تبشيرية تقول بأن هذا التنظيم بكاتبيه وباحثيه وناشطيه سيكون حامل شعلة التنوير الشيعية. وقد أسهم في حملة التبشير هذه بعض من يفخر بكونه «ليبراليا»؛ إذ قرأت لأحد الليبراليين السعوديين - من غير الشيعة - مقالا نشره في يومية لبنانية، فحواه أن شيعة السعودية في عزلة وظلام منذ تأسيس الدولة حتى عودة قيادة هذا التنظيم وكوادره من الخارج، حيث معهم - فقط - بدأ العمل على اندماج الشيعة في النسيج الوطني. هذا نموذج لكيفية التعاطي مع الشأن الشيعي الذي يتضح أن الجهل به متفشٍ حتى في أوساط المشتغلين في إنتاج الوعي؛ إذ إن أي متابع متجرد من المواقف المسبقة، لن يجد صعوبة تذكر في التوصل إلى حقيقة أن الشيعة في السعودية يشكلون جزءا أصيلا وأساسيا في النسيج الوطني، وقد أثبتت الأحداث صحة هذا القول؛ فمنذ التحاق منطقة القطيف سلما بمشروع تأسيس الدولة السعودية الثالثة حتى غزو صدام للكويت، وما بين التاريخين، أثبت الشيعة في السعودية أن وطنهم هو خيارهم الأول. وجدير بالذكر أن الشيعة في السعودية تقدموا للقيادة بطلب التطوع في الخدمة العسكرية لرد عدوان قوات صدام حسين عن الحدود عندما اجتاحت قواته كامل التراب الكويتي ووصلت لمشارف مدينة الخفجي».

«الأصولية الحركية الشيعية» في معرض سجالها السياسي المحلي تحالفت في بيانات سياسية حتى مع مساجين تنظيم القاعدة في السجون السعودية، في ممارسة تحشيدية كانت إبان صعود القوى الإخوانية لسدة الحكم في دول الجوار الإقليمي في عام 2012، التي فرضت تحالفات مختلفة في المشهد السعودي الداخلي، جمعت رموز الذائقة الإخوانية سياسيا، مع نشطاء اليسار الحقوقي (اليسار هنا اصطلاح إجرائي)، مع منظري «الصحوة الشيعية»، في سلة واحدة، وتلك قصة أخرى.

وبالعودة للخطي الذي كان قد كتب سابقا عن ملامح تحالفات بين بعض رموز الأصولية الشيعية الحركية، وعصابات إجرامية محلية للقيام بالنيابة عنهم بأعمال شغب مسلح، يقول: «الحديث عن حراك الشارع الشيعي في السعودية به من التضخيم ما يكفي لجعله حراكا إعلاميا أكثر من كونه وصفا لما يجري على أرض الواقع؛ فخروج مظاهرات ومسيرات في محافظة القطيف، لا يزيد عدد المشاركين بها على مئات - مع المبالغة في العدد - في منطقة يتجاوز عدد سكانها 600 ألف مواطن - غير الوافدين - لا يؤهل هذه المسيرات والمظاهرات لنيل الاتصاف بأنها «حراك الشارع الشيعي». فالحادث على الأرض هو أن هناك فئة قليلة غير مقتنعة بالحوار بوصفه منهجا كفيلا بإيصال الصوت المطلبي لمسامع القيادة، وهذه الفئة تحالفت فيما يبدو مع عدد من معتادي الجريمة الجنائية، فظهر السلاح بأيدي بعض منتسبيها. وللسلاح سطوته، فقد تكفل ظهور السلاح بإخافة صوت الغالبية المنشغلة بشأنها الحياتي وبكفاحها لتحقيق مستوى معيشي كريم ولضمان مستقبل جيلها المقبل وما بعد المقبل. أذكّر هنا بأن بعض من يتصدى للدفاع عن نشاط هذه الفئة القليلة، مقيم خارج المملكة ويتمتع بلجوء سياسي في دول أوروبية غربية وفي الولايات المتحدة الأميركية، وهو وأفراد أسرته في مأمن من كل خطر ويتلقون كل أشكال الرعاية المجانية في دول اللجوء، ولكن كل حدث خطير يحدث بالداخل يمد حضوره الإعلامي بمادة هي بمثابة ماء الحياة التي لولاها لَذَوَى وتلاشى وأصبح نسيا منسيا».

الحرائق التي تشعلها الأجندة الطائفية التي تقاد من طهران، أطلقت أجراس الإنذار في عواصم دول الاعتدال في المنطقة، وهو الموقف الذي أكدت عليه الرياض، الند الإقليمي الصلب، على لسان وزير خارجيتها أكثر من مرة، الأمير سعود الفيصل بقوله: (إذا كانت طهران تبحث عن دور في المنطقة، فليكن دورا إيجابيا)».

خالد العرداوي، مدير «مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية» في كربلاء بالعراق، كتب في مقالة نشرها «معهد واشنطن للدراسات»، تحت عنوان: «تسييس الشيعة وأثره السلبي على الأمن الوطني والإقليمي والدولي» ما نصه: «ظاهرة تسييس الشيعة لا تصب في مصلحتهم كوجود سياسي واجتماعي وثقافي بناء وفاعل، كما لا تصب في مصلحة السلم والأمن الوطني والإقليمي والدولي؛ إذ من شأنها تعميق الشعور بالمظلومية التاريخية لمكون اجتماعي - سياسي - وعقائدي مهم في العالم الإسلامي، مما قد يدفع أبناءه إلى العزلة السياسية، ويضعف ترابطهم مع بقية المكونات الاجتماعية من جهة، ومن جهة أخرى مع الأطراف التي تحاول تعميق حالة (فوبيا الشيعة)».

على النسق نفسه، يرى جهاد الخنيزي، الكاتب السعودي من أنباء القطيف أن «جزءا من المشكلة يعود إلى معايشات الفكر الديني الذي يرى في نفسه كتلة واحدة جيوسياسية مستحضرا تجارب تاريخية تمكنت فيها دول من التمدد بسبب الروح الدينية أو القومية المشتركة، وبالتالي يتناقلون المؤثرات، وهذا يحدث دائما في الأحزاب الأممية التي لها رأس وفروع؛ إذ تبدأ الامتداد في مواقع التشابه والارتباط كبيئات ممكنة القبول والتأثير وليست ضرورية لذلك، ثم تبدأ في مرحلة ثانية في اختراق الآخر المختلف عبر وسائل متعددة لعل أهمها الخطاب المعتدل الذي لا يرفض خصوصياته ويساعده على تحقيق أمنياته».

ويضيف الخنيزي: «من جهة أخرى، يتغذى النزوع نحو إيران من قبل بعض القيادات الشيعية المأزومة، من تهميش الشيعة في بعض دولهم وتنامي خطاب الإقصاء والتطرف ضدهم، وتعميم حالات فردية ليوصف بها الشيعة كطائفة، مما يثير النزوع نحو حلم المخلص. وهو حلم تتغذى عليه كل الأقليات، وليس الشيعة فقط».

يذكر أن الملك عبد الله أسس قبل 10 أعوام «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني»، الذي حفل بحضور لافت للأقليات في المشهد السعودي، مما فتح آفاقا جديدة على مستوى تبادل الأفكار ووجهات النظر الوطنية المختلفة.

في بُعد آخر لصورة التوازنات الإقليمية، يشير واقع اقتصادات السياسة النفطية اليوم إلى أن أكثر المتضررين منه طهران، المستنزفة في حروب المنطقة الطائفية من أجل الحفاظ على مكتسباتها الجيوسياسية، وحليفتها روسيا التي تنفست الصعداء من ضعف تأثير واشنطن في عهد أوباما ليس فقط على مستوى أوروبا الشرقية، بل وعلى مستوى آسيا الوسطى التي كانت موسكو ترقب صعود النفوذ الأميركي فيها بنظرات قلقة في حقب سابقة.

هذه المعطيات السياسية والمنحنيات الاقتصادية التي تدفع في اتجاه زعزعة عاصمة «الإسلام السياسي الشيعي»، طهران، وحلفائها الإقليمين، يرى المراقبون أنها قد تكون مدعاة تقليدية ومكررة للعب بورقة الأقليات الطائفية في المنطقة وتشجيع الأصوليات السياسية الشيعية فيها على التحرك، واستغلالها ورقة لفك الاختناق السياسي والاقتصادي المرجح دخولها فيه.. مع تراجع أحلام التمدد الجيوسياسي الذي غدا بعيد الاحتمال.