نازحو التبانة وتجار الأسواق العتيقة في طرابلس مصدومون من هول الدمار

تاجر لـ («الشرق الأوسط»): لم أر مثل هذا الخراب حتى أثناء الحرب الأهلية

لبنانية تتفقد منزلها الذي احترق جراء اشتباكات بين الجيش ومسلحين في بلدة بحنين شمال لبنان أمس (رويترز)
TT

بقي أهالي طرابلس يوم أمس تحت هول الصدمة، من تجار الأسواق العتيقة الذين تضررت محالهم أو احترقت، إلى سكان باب التبانة الذين تحولوا إلى نازحين، ومنهم من فقدوا بيوتهم، أو أحبتهم. الكارثة بدت كبيرة، ومختلفة عن أي معركة سبقت، رغم أن الاشتباكات لم تدم سوى 3 أيام، بين الجيش اللبناني ومسلحين متطرفين، تحصنوا في المنطقتين.

في «مدرسة النهضة» في منطقة الميناء ما يزيد على 120 نازحا من باب التبانة، وصلوها ليل أول من أمس، بعضهم بملابس النوم، وغالبيتهم لم يحمل أي شيء معه.

بلال. ع. (46 عاما) لا يريد التصريح باسمه، لأن ابنه مسجون بتهم إرهابية في سجن رومية. نزح مع زوجته و6 أشخاص من عائلته. منزله في التبانة ملاصق لمسجد عبد الله بن مسعود الذي اتخذ منه المسلحون المتطرفون مقرا لهم. يروي أن بيته الطيني انهار على رؤوس أولاده، مع بدء قصف الجيش على المسلحين. ويضيف: «عند الرابعة صباحا من يوم الأحد، انهار المنزل علينا، وصرت أرفع الردم عن رؤوس أولادي، ثم هربنا إلى ملجأ المبنى الفائض بالمياه والقاذورات، اختبأنا هناك، حتى الساعة الثامنة مساء حيث سمح لنا الجيش بالخروج. عندها سرنا على أقدامنا، وصولا إلى جامع التقوى، حيث كانت باصات إحدى الجمعيات بانتظارنا ونقلتنا إلى هنا».

آلاف من أهالي باب التبانة، استغلوا فرصة الهدنة الإنسانية، مساء أول من أمس، للخروج من بيوتهم بعد ساعات من المعارك الضارية التي دارت بين المسلحين المتشددين والجيش اللبناني، ووقوع غالبية الإصابات بين صفوف المدنيين. وشوهدت نساء يخرجن بملابس النوم، وغالبيتهم نزحوا دون أي أمتعة معهم. ويقول بلال إن بيته أصيب لمرات عده في الجولات السابقة لكنه هذه المرة نكب بانهياره بالكامل، متحدثا عن دمار هائل في منطقته، وكارثة حلت بالكثيرين. ويقول: «نحن فقراء لأننا مدنيون ومسالمون ولا نحمل السلاح. المسلح في التبانة يحمل 3 تلفونات وعنده سيارتان، ويلبس أحلى الثياب، والناس تحترمه». ويضيف: «لكن هؤلاء المسلحين كانوا يهتمون بنا، ويساعدوننا بمعونات غذائية، وبعض الأموال التي لا بأس بها لعائلة مثلنا». ويصف ما تتعرض له التبانة بأنه «مسلسل مكسيكي، بدأ ولن ينتهي».

احتقان وغضب شديدان عند هؤلاء النازحين الذين يتريثون في العودة إلى بيوتهم. يتحدثون عن كابوس القصف الذي عاشوه. الشتائم على أفواه أهالي التبانة لا ترحم أحدا، أولهم السياسيون الذين «يغدرون بهم» المرة تلو المرة، والمسلحون الذين يورطونهم، وحتى الجيش له من الغضب حصة. منهم من يقول: «لا نريد الكلام. كلهم زعران يروحوا يوظفوا الناس، بدل أن يعطوهم سلاحا ويضحكوا على الشباب». امرأة تسأل: «هل الذنب هو ذنب المسلحين وأهالي التبانة أم السياسيين الذي سلحوهم وغرروا بهم وتركوهم يموتون». ترد أخرى: «أخبروني كم مسلحا مات في المعارك. الذين ماتوا هم الناس المختبئون في بيوتهم. والقصة لم تنته بعد». وكانت المعارك، التي بدأت في يومها الأول في الأسواق المملوكية القديمة، لتنتقل بعدها إلى منطقة باب التبانة التي تبعد أمتارا قليلة عن الأسواق، خلفت رغم قصر مدتها، أضرارا بالغة وعددا كبيرا في الضحايا.

في الأسواق الصدمة، بدت جلية على وجوه التجار الذين جاءوا يتفقدون محالهم. السوق العريض القريب من السرايا العتيقة هو الأكثر تضررا. محلات محترقة قضت عليها النيران بالكامل، واجهات زجاجية انهارت بسبب الرصاص. شراسة المعركة نخرت كل شيء. يحاول صاحب محل أحذية انتشال بعض ما بقي من دكانه. الرجل غاضب لكنه يشكر السماء لأن بعض البضاعة سلم. يزفر وكأنما طفح الكيل ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «لم يسبق في تاريخ هذا السوق أن شهد دمارا مشابها لا عام 1974 أثناء اختباء المطلوبين للدولة فيه طوال 9 أشهر، ولا خلال 15 سنة من الحرب الأهلية».

تاجر آخر بقي دكانه سالما، يجلس أمامه يتأمل جيرانه المنكوبين، يعلق: «اليوم أحسن من بكرا، والآن أفضل من بعد 5 دقائق. ذاهبون إلى الأسوأ، لا نزال في بداية الفيلم، والله يستر من الأعظم». السوق لا يزال مغلقا، مئات المحلات لم تفتح أبوابها. طرابلس العتيقة في حزن لا ينتشلها منه أمل بغد ممكن. متشائمون حتى الثمالة، هؤلاء الذين ورثوا في غالبيتهم، محالهم عن عائلاتهم. من عائلة هلال إلى كبي إلى المظلوم والسنكري، أسماء لها تاريخ في السوق، لكن هذا لا يجدي في شيء أمام جنون التوحش. محلات المظلوم للملابس في السراي العتيقة أجهزت النيران على طابقيه الاثنين، وأكلتهما بالكامل، ويبدو أن أصحابه لم يرغبوا حتى في جرف بضاعتهم المتفحمة. شاحنات تحاول مع أصحاب المحال لملمة الردم الهائل، وتنظيف ما يمكن تنظيفه، ورشة من عمال شركة الكهرباء تصلح التيار المقطوع من يومين عن كل المنطقة. العمل يسير بطيئا، فكم التمديدات التي ضربت كبير جدا.

لا يريد أحدا أن يصدق هنا ما قاله لهم المسؤولون الذين مروا لمواساتهم، بأن «معركة من هذا النوع لن تتكرر». يسخر أحدهم وهو يهز برأسه: «كما حصل في باب التبانة 20 جولة، سنرى ما يشبهها هنا. افتتحت الجولات ولن تغلق قبل أن تقضي علينا». طبعا يجيبه آخر: «الحبل عالجرار». يتحدثون هنا عن الأب الذي قتل مع ابنه بالقرب من محالهم، كل يحاول أن يصوب للآخر تفاصيل المأساة التي ألمت بعائلة المصري التي لا ناقة لها ولا جمل. نساء في أول السوق العريض ينزلن ردما إسمنتيا من منزل يقلن إنه دمر بشكل شبه كامل. تقول إحداهن: «كان أخي أكمل ورشة لإصلاح المنزل يريد أن يتزوج ويسكن فيه، لكن ما في نصيب». حين نسأل إن كان أحد قد بدأ يتكلم عن إغاثة أو مساعدة ستعطى إليهم. تجيب: «الجميع هنا ينتظرون، ما يمكن للدولة أن تساعد الجميع». تتحدث التقديرات عن خسائر بمليوني دولار في الأسواق ومثلها في التبانة.

لا وجود لأي عسكري في السوق. الجيش كان غائبا بالكامل عند وصولنا ظهر أمس، رغم الكلام عن مخاوف من هرب مسلحين واختبائهم في الأسواق.

بعض الوقت وتصل دبابة بالقرب من محلات «اي.بي.سي» الشهيرة، قريبا من الأسواق، ثم سرعان ما يتوالى وصول الجيش وتبدأ عمليات دهم في الأسواق.

الحال أسوأ كثيرا داخل منطقة باب التبانة حيث جرت المعارك الأشرس، والتي رغم الحديث عن تواري المسلحين أو فرارهم، يضرب الجيش طوقا أمنيا حولها، ولا تزال الأجواء الحربية مخيمة عليها.