مشهد سياسي جديد يتبلور بعد تصدر «النداء» نتائج الانتخابات التشريعية

«مشاورات الكواليس» بين مسؤولين في عهد بن علي ومنخرطين قدامى في الحزب الدستوري خلطت الأوراق في آخر لحظة

رئيس الوزراء السابق الباجي قائد السبسي (أ.ف.ب)
TT

من المقرر أن تُعلن النتائج الرسمية والنهائية للانتخابات البرلمانية التونسية، بعد أيام، أي بعد استكمال إجراءات الفرز والبتّ في الطعون. لكن التوجه العام للنتائج يبدو مؤكدا، أي تكريس انتصار مرشحي الأحزاب المحسوبة على النظام السابق وحزب الرئيس زين العابدين بن علي (التجمع الدستوري الديمقراطي) على مرشحي الأحزاب التي وقع تقنينها بعد ثورة 14 يناير (كانون الثاني) 2011. وتصف نفسها بـ«الثورية»، وعلى رأسها حركة النهضة الإسلامية والأحزاب العلمانية التي كانت تمثل الأغلبية في البرلمان الانتقالي والحكومات السابقة.

لماذا حصلت هذه المفاجأة الانتخابية؟ وما الذي مهَّد لها خلال «تحركات الكواليس» في الأيام القليلة التي سبقت الاقتراع العام؟ وكيف سينعكس على المشهد السياسي التونسي في المرحلة المقبلة؟

قد يتواصل «التشويق» أياما، قبل الكشف عن الخريطة السياسية والحزبية الجديدة داخل البرلمان، وتتواصل في شوارع تونس احتفالات شباب من أنصار الحزبين الكبيرين؛ «نداء تونس» و«النهضة»، في محاولة من كل طرف بالإيحاء بكونه الكاسب الكبير، لكن تعاقب شهادات المراقبين لمراكز الاقتراع من الحزبين الكبيرين وخصومهما أكدت «فوز حزب الباجي قائد السبسي» بالمرتبة الأولى، أي بنحو ثلث المقاعد، أي أكثر من بقليل من عدد المقاعد التي فاز بها مرشحو حزب النهضة، وهو ما عده عبد الرؤوف العيادي زعيم حزب «وفاء» المعارض لكل أشكال المصالحة مع رموز النظام السابق «نكسة للثورة التونسية والثوريين وعودة لرموز الفساد والاستبداد».

* جبهتان من الأحزاب ضد حزب

* ويرى الجامعي والخبير السياسي جمال الطاهر أن من بين ما يفسر «مفاجآت الانتخابات البرلمانية التونسية» أن قادة حركة النهضة وحلفاءها «الثوريين» خاضوا المعركة ضمن أحزابهم، ورفضوا تشكيل جبهة انتخابية مشتركة توحدهم على غرار ما فعلت «الأحزاب الدستورية والتجمعية» من جهة وأحزاب «أقصى اليسار» من جهة ثانية، في الأيام الأخيرة للحملة الانتخابية، فكانت الحصيلة شبه إقصاء للأحزاب اليسارية والقومية العلمانية، مثل حزبي الرئيس منصف المرزوقي، ورئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر، وحزب زعيم المعارضة في عهد بن علي، أحمد نجيب الشابي، وثلاثتهم من بين «أبرز المرشحين» للانتخابات الرئاسية المقررة ليوم 23 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل رغم تضاؤل حظوظهم، بعد أن كشفت الانتخابات البرلمانية ضعف شعبيتهم.

كما كانت الحصيلة إضعافا واضحا لحركة النهضة التي كان قادتها إلى ما بعد بدء عمليات فرز الأصوات، مثل أمينها العام علي العريض، يؤكدون في تصريحاتهم أنها تفوز بالمرتبة الأولى.

* هجوم «القدامى» و«أقصى اليسار»

* لكن خوض مرشحي حزب حركة النهضة معركة ضد جبهتين من الأحزاب رفعتا شعارا موحدا: «التصويت الإيجابي ضد النهضة والثورجيين» تسبب في فشلهم النسبي، وتفوق خصومهم المحسوبين على النظام السابق في أغلب الدوائر.. فيما تفوقت «الجبهة الشعبية» بزعامة حمه الهمامي الأمين العام لحزب العمال الشيوعي على بقية الأحزاب اليسارية، وفازت بالمرتبة الرابعة أو الخامسة، بما أهّلها لمضاعفة مرتقبة لعدد نوابها من 5 في البرلمان الانتقالي الحالي إلى نحو 10 في البرلمان الجديد، والتأثير أكثر في المشهد السياسي المقبل مستفيدة من تزايد تأثيرها في صفوف النقابات العمالية والجامعات.

ورغم تزكية عدد من نواب حركة النهضة في البرلمان الانتقالي لشخصيات يسارية وتجمعية مرشحة للانتخابات، مثل حمة الهمامي، والوزير السابق كمال مرجان، يُستبعد مبدئيا أن يتحالف النواب القريبون منهما مع نواب حزبها في البرلمان الجديد، وذلك في مرحلة يبدو فيها الترحيب كبيرا بالنتائج في صفوف نشطاء «المجتمع المدني» ونقابات العمال وزعيمات الجمعيات النسائية والحقوقية اليسارية مثل بشرى بالحاج حميدة، رئيسة جمعية «النساء الديمقراطيات» سابقا، والكاتبة رجاء بن سلامة المشهورة بمواقفها المعارضة بحدة لزعامات «الإسلام السياسي» وقيادات حركة النهضة.

* شباب ونساء

* ويفسر عدد من قادة حزب نداء تونس، مثل المحامي اليساري القومي الأزهر العكرمي الناطق الرسمي باسم الحزب أن «عشرات الآلاف من الشباب والنساء صوتوا بكثافة في هذه الانتخابات لصالح (نداء تونس)، وصوتوا ضد قوائم حركة النهضة لأنهم يعتقدون أن مرشحيها يرمزون إلى المحافظة والرجعية والظلامية».

ويسجل الباحث في علم النفس وعلم الاجتماع السياسي، الدكتور فتحي التوزري أن «من بين الظواهر اللافتة للنظر مقاطعة غالبية الشباب للأحزاب السياسية التقليدية وخاصة لحركة النهضة».

بينما سجل الإعلامي والباحث في شؤون الجماعات الإسلامية منذر بالضيافي أن «قادة حركة النهضة وحلفاءها الإسلاميين والثوريين فشلوا في استقطاب الشباب والنساء المتحررات اللواتي برز داخلهن تخوف من (تغول) جديد للأحزاب الإسلامية، بما قد يشكل خطرا على مكاسب المرأة التونسية وحقوقها وقانون الأحوال الشخصية».

* جبهة «رفض»

* ويعزو عدد من المختصين في الانتخابات مثل حسن زرقوني مدير مؤسسة استطلاعات الرأي، «سيغما كونساي»، تغيير المشهد السياسي لصالح حزب «نداء تونس» على حساب خصومه «الإسلاميين والثوريين» إلى الشخصية الكاريزماتية لزعيمه، ونجاحه في إبراز حزبه في شكل «حاضنة لكل الغاضبين على قيادات حركة النهضة وحلفائها في «الترويكا»، بما في ذلك بعض الزعامات اليسارية والنقابية والمستقلين والجامعيين الليبراليين، إلى جانب الغالبية الساحقة من المنخرطين السابقين في حزب الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وحزب الرئيس السابق بن علي الذين وقع إقصاء عدد كبير من رموزهم، وتعرضوا لمحاكمات ومضايقات بعد ثورة يناير 2011.

ويعيد سمير الطيب الأمين العام لحزب المسار (الحزب الشيوعي سابقا) إلى الأذهان العلاقة بين التغييرات الكبيرة في المشهد السياسي وتشكل «جبهة رفض» للترويكا السابقة، وتحركات «جبهة الإنقاذ» في صائفة 2013، واعتصاماتها في الساحات العامة، مما أدى إلى الإطاحة بحكومة علي العريض القيادي في حزب النهضة.

* مشاورات الكواليس

* في غضون ذلك، أكد عدد من كبار المسؤولين بالدولة في عهد بن علي لـ«الشرق الأوسط» أن «مشاورات الكواليس» بينهم وبين تيار عريض من المنخرطين القدامى في الحزب الدستوري أسفرت عن توافق على التصويت لفائدة قائمة حزب «نداء تونس»، وعدم تشتيت الأصوات بين نحو 10 قوائم حزبية «دستورية وتجمعية». بما فيها تلك التي يتزعمها رئيس الحكومة الأسبق حامد القروي والوزراء السابقون عبد الرحيم الزواري وكمال مرجان والتيجاني حداد.

مشاورات الكواليس دعمها حسب مصادر «الشرق الأوسط» وزراء سابقون «من الحجم الثقيل»، مثل عبد الله القلال وزير الداخلية الأسبق، وثلة من زملائه السابقين في حكومات بن علي، الذين تعهد لهم زعماء من حزب نداء تونس بإصدار «عفو عام»، وبإعادة إدماجهم في الحياة السياسية، بما يعني أن «رموز النظام السابق» سيكونون في كل الحالات جزءا من المشهد السياسي المقبل، خاصة أن معارضيهم القدامى، مثل زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، ومستشاره السياسي الوزير السابق لطفي زيتون، والشيخ عبد الفتاح مورو، أصبحوا منذ أشهر يدافعون عن هذا الخيار، وذلك في خطوة فسرها كثيرون في تونس بـ«الضغوطات الدولية» التي تعرضوا لها في هذا الاتجاه.