مهرجان «أبوظبي السينمائي 5» : فيلمان روائي وتسجيلي يبحثان في الماضي الحاضر دوما

المهرجان تخلى عن التشابه الذي ساد سياسته في سنواته الأولى

ذكريات منقوشة على حجر، و لقطة من الفيلم الاماراتي «صوت البحر».
TT

أحد الأمور الجوهرية التي يعمد مهرجان «أبوظبي السينمائي» (23 أكتوبر /تشرين الأول - 1 نوفمبر /تشرين الثاني) إليها، أن يتخلّى عن التشابه الذي ساد سياسته في السنوات الأولى على إنشائه. وحسنا يفعل.

في النصف الثاني من العقد الأول من هذا القرن، تداعى بعض مسؤوليه من الإداريين والمبرمجين إلى اعتباره مهرجان «كان» العرب. من هؤلاء من أطلق عليه اسم «كان الصحراء» ومن أكد في تصريحاته أنه بات ينافس كان بالفعل.

إدارة المهرجان الحالية أكثر وعيا من أن تقع في مصيدة التشبيهات والمقارنات. «كان» هو «كان» و«أبوظبي» هو «أبوظبي»، كما أن برلين ليس فينسيا وصندانس ليس تورونتو وهكذا. لأنه ليس صحيحا أن هناك مهرجانا عالميا يشبه «كان» فما البال بمهرجان عربي؟ كل مهرجان له خصائصه وحجمه ومنهجه. صحيح أنه ضمن هذه الخصائص والمناهج وحدة اتجاه (كلها بلا استثناء تهدف لعرض أفضل الأفلام المتاحة وغالبا في مسابقات دولية) لكن الفوارق كبيرة. «كان» استوى على المنصب الأول بسبب المدينة وبسبب التاريخ (تاريخه) وبسبب شموليّته (المهرجان والسوق) وبسبب استقطابه إعلاما كاسحا لا يحتاج لدعوة معظمهم لكنهم يقبلون عليه بالألوف من النقاد والصحافيين والمصوّرين.

إذا لم يكن لشيء آخر، فإن المقارنة بينه وبين أي مهرجان آخر، من بينها دبي أو أبوظبي أو سواهما من مهرجانات العالم العربي، تبقى غير صحيحة وبالتأكيد ليست مفيدة.

* عالمية فعلية!

* إلى ذلك، ليس من مصلحة أي مهرجان اليوم أن يعقد مقارنة بينه وبين مهرجان آخر. مهرجان أبوظبي السينمائي يعرف اليوم أهمية هذه النقطة جيدا. فكلّما ابتعد المهرجان عن المقارنة وادعائها كلما كان عليه - إذا ما أراد أن يتبوأ مركزا مهما - أن ينهل من كيانه الخاص. أن يتبلور ويتطور معتمدا على فاعليّته في المحيط الذي يعمل فيه. هنا هو محيط إماراتي - خليجي - عربي - دولي وبذلك هناك الكثير مما عليه أن ينجزه في هذا المحيط المتضاعف.

على أن هذا لا يغني عن تقييم المهرجان ضمن هذه التعددية. وفي حين أنه بالفعل مهرجان إماراتي، نسبة لوجود مسابقة خاصّة بالسينما الإماراتية، تقود لجنة تحكيمها المخرجة المغربية فريدة بليازيد وتضم الكاتب والفنان المسرحي الإماراتي عبد الله صالح وفريقا متنوّعا تم تشكيله من فنانين ومسؤولين سعوديين وقطريين وعراقيين، وهو مهرجان عربي يضم أعمالا آتية من معظم الدول العربية المنتجة (لبنان، العراق، الإمارات، البحرين، فلسطين، مصر) وعالمي من حيث أنه يستقبل طبعا أفلاما من كل دول العالم وأركانه، إلا أن ما يجب أن يُذكر أن «العالمية» وضع هش بالنسبة لأي مهرجان.

غني عن القول أن استقبال مهرجان لأفلام من الأميركتين وآسيا وأفريقيا وأوروبا وسواها يعني أن المهرجان دولي في عروضه، إلا أن ذلك لا يعني أنه مهرجان دولي في حضوره. هذا لا يمكن تحقيقه مطلقا عبر استحواذ أفلام من الولايات المتحدة والسويد وأستراليا أو كندا أو فرنسا أو كوريا الجنوبية أو كولومبيا أو الكونغو أو أستراليا. لأن العالمية الفعلية هي سقف مرتفع عن السطح، لا بالنسبة لهذا المهرجان فحسب، بل لمعظم المهرجانات الأخرى حول العالم.

بين المهرجانات «كان» يستطيع أن يقول إنه العالمي الأول. «تورونتو» يستطيع أن يقول إنه الثاني. الفارق هو أن كليهما له اختصاصات في عروضه تجعله محل هجوم الإعلام والسينمائيين على حد سواء. لديك فيلم تريد بيعه، أو مشروع فيلم تبحث له عن تمويل؟ كان وتورونتو سيساعدانك على تحقيق هذه الغاية لأنهما يجسّدان كتلا من الأسواق الآسيوية والأوروبية والأميركية المترامية.

حين يأتي الأمر إلى الجوائز ليس هناك من جائزة تعلو عن جائزة الأوسكار كحضور عالمي وكشهرة ولا حتى جائزة مهرجان «كان». فوز «صمت الحملان» The Silence of the Lamb لجوناثان دَمي سنة 1992 بجائزة الأوسكار كأفضل فيلم أحدث يومها صدى أعلى من فوز فيلم «أفضل النوايا» لبيلي أوغست بالسعفة الذهبية، وسنجد أن هذا المنوال هو السائد دوما.

طبعا جائزة السعفة الذهبية هي تكريم معنوي رائع من مهرجان اعتاد ألقاب الاستثناء والتميّز، لكن في الواقع الفعلي فإن الأوسكار هو سيد الجوائز العالمية.

* ذكريات على حجر..

* هذا كله ليس للتقليل من شأن مهرجان «أبوظبي» أو سواه على الإطلاق، لكن للتأكيد أن مشواره في الحياة السينمائية يختلف ومن الأفضل له أن يختلف وهذا يأتي متطابقا مع النظرة السائدة بين القائمين عليه. يقول لي أحدهم: «تستطيع أن تلاحظ أمرين أساسيين في برمجتنا هذه السنة. الأمر الأول هو أننا لم نفضّل العدد على النوع. لقد كان لدينا هذا الخيار ورأينا أن نقوم بانتخاب ما نراه الأهم لنوعيّته. لذلك ستجد أن عدد الأفلام المعروض هنا التي سبق لها وفازت بجوائز من المهرجانات الأخرى كبير. الأفلام الفائزة بمهرجانات برلين وكان وفينسيا وكارلوي اري وسان سابستيان موجودة هنا».

الأمر الثاني، كما يضيف المتحدّث هو «الرغبة في أن ندفع بالسينما العربية إلى مصاف دولي بالفعل».

في هذا الإطار هناك شيء مهم وقع ولا يزال. بعض متابعي هذا المهرجان في السابق، وهذا الناقد من بينهم، شكّك في جدوى ضم أفلام عربية إلى مسابقة دولية ثم فصلها بجوائز خاصّة ضمن المسابقة ذاتها. اليوم، ومن بعد تعديل جزئي في تنظيم المسابقة، يبدو أن الغاية بررت الوسيلة فعلا. الآن بات الأمر تكريسا لحق الفيلم العربي أن ينافس أترابه المقبلة من هونغ كونغ وروسيا وأميركا وفرنسا وسواها.

طبعا هذا لا ينفي أن مثل هذه المسابقة تحدد عدد الأفلام العربية المشتركة (ما زال مهرجان دبي يستقطب غالبية الأعمال العربية الجديرة بالتسابق في كيان مستقل) لكنها تمنحه الشعور بالمساواة مع فرص الإنتاجات العالمية.

واحد من الأفلام العربية المهمّة التي رأيناها في الأيام السالفة كان، وكما تقدّم، «المطلوبون الـ18» وخلال اليومين الماضيين شاهدنا فيلمين آخرين جديرين بالإعجاب مع بعض التحفّظ.

«ذكريات منقوشة على حجر» (مسابقة الأفلام الروائية) هو فيلم عراقي- ألماني وكردي في هويّته الثقافية، أخرجه شوكت أمين كوركي الذي يعيش ويعمل في ألمانيا منذ عدة سنوات. دراما توفّر نظرة داكنة على الحاضر غير القادر من التخلّص من أعباء الماضي مضاف إليها المزيد من تبعات العيش في الصندوق المتداول من التقاليد الصارمة.

هناك مخرج كردي في هذا الفيلم (الممثل حسين حسن) يحاول تحقيق فيلم عن «الأنفال» (وتحت هذا العنوان) ليجسّد فيه واحدة من المذابح المدنية التي أقدم عليها الجيش العراقي بأمر من القيادة العليا في زمن الرئيس صدّام حسين. إنه يبحث عن ممثلة تؤدي الدور الذي في باله. فجأة تتقدّم منه فتاة شابّة (شيماء مولدي) تعمل في الأصل مدرّسة، ويجد فيها الصفات الفنية التي يريد. ما إن يبدأ التصوير حتى تترتّب على العمل مشاكل مختلفة. البطولة الرجالية آلت لنجم اضطر المخرج إليه لأن التمويل يريده. الفتاة ذاتها تتعرّض للضغط من قِبل عمّها وابن عمّها (وخطيبها) اللذين يريان أن التمثيل معيب. عندما ينبري المخرج ومساعدوه لتأكيد ضرورة السماح للفتاة بالاستمرار في العمل لأن الفيلم في النهاية كردي يكشف عن مأساة تعرّض هذا الشعب لها وبالتالي فإنه واجب وطني. لكن هذا النداء لا يسجل إلا هدنة مؤقتة تتدافع خلالها وبعدها الأحداث صوب نهاية أكثر قتامة من الأجواء التي سادت مسيرة الفيلم سابقا.

العنوان هو إشارة لاسم والد الممثلة الذي وجدته محفورا في واحد من غرف التعذيب في مبنى مهدم. إنه مبنى يتألّف من طابقين بلا نوافذ أو أبواب الآن تدخله الفتاة ويميل المخرج في كل مرّة تقوم هي بزيارته إلى تغيير منهج عمله فتصبح الكاميرا محمولة تسير وراءها ويتشبّع شريط الصوت بهمهمات من الماضي. لكن المخرج بدوره يحمل ذكريات مرّة لا يستطيع إلا أن يخفيها. حين كان صغيرا صعد قمرة صالة السينما بينما كان والده يعرض فيلم المخرج يلماز غونيه (الفيلم هو «الجدار»). غونيه هو شاعر وممثل ومخرج كردي - تركي كان نجما مشهورا بين قومه ثم تحوّل إلى نموذج للنضال عندما قام الأتراك بسجنه لمواقفه السياسية، وأسطورة بعدما مات، سنة 1984. في بلدان المهجر. «الجدار» (1983) كان آخر أفلامه واحتوى دعوة لثورة الأكراد على الوضع القائم في سجون تركيا السياسية، لجانب الدعوة الدائمة التي برزت في كل أعمال غونيه حول الهوية الاجتماعية والثقافية المختلفة وقمع السلطات التركية لها.

فجأة يداهم الأمن العراقي الصالة ويعتقل الموجودين ويقتل والد الصبي الذي يعمل عارضا للفيلم أمام ناظري ابنه. الآن إذ يعمل هذا الابن مخرجا يعيش تحت وطأة لا الرغبة في تعرية أحداث الأنفال التي من بين ما عاناه الأكراد خلال الحكم العراقي السابق، بل أيضا تحت وطأة الحياة التي لا تؤمّن للسينمائي الجاد كل ما يريده للتعبير عن نفسه. كلاهما، هو وبطلته، راضخان تبعا لظروف متشابهة وإن اختلفت: هي تحت مفهوم أن التمثيل معيب وهو تحت مفهوم أن الفيلم سلعة تجارية مهما كانت أهدافه نبيلة أو وطنية.

موضوعه وطروحاته تبقى أهم وأفضل إنجازا من مستواه الفني الشامل. ليس أنه لا يصيب الهدف على صعيده الفني هذا، لكنه لا يؤسس لأسلوب إخراج ناجح يضمن سردا محكما واستخدام أفضل للعناصر الدرامية المطروحة. متكرر في أكثر من مشهد ويعمد لسرد تتوزّع فيه الشخصيات المساندة لتصبح كما لو أنها أولى. بذلك يتم تحديد فاعلية الحكاية وشخصيّتيها الرئيستين.

* .. وأخرى في حياة البحر

* الفيلم الثاني هو «صوت البحر» (مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة) والمخرجة هي الفنانة الإماراتية نجوم الغانم التي لها باع بات طويلا من الأفلام الجيّدة التي استحقت من ما نالته من جوائز على مدى السنوات الـ13 الماضية. من بينها مثلا «المريد» (2008) و«حمامة» (2011) و«أحمر أزرق أصفر» (2013).

الحقيقة هي أن نجوم الغانم لا تتوقّف عن العمل، وأنها لا تنجز أفلاما رديئة أو متناقضة المستوى. الحقيقة الثانية هي أن اهتمامها هنا يختلف بعض الشيء عن اهتمامها عبر أفلامها القليلة السابقة. فمن بعد طرحها حياة الفنانة السورية المهاجرة أمل حويجة في «أمل» وتناولها حياة وظروف امرأة عجوز اسمها حمامة (في فيلم بنفس الاسم) لديها معرفة كبيرة بالطب الشعبي ولديها قدرة فطرية على مداواة المرضى وفهم ماهية أمراضهم، ومن بعد سبرها غور الفنانة الإماراتية نجاة مكّي التي تداوم سكب مشاعرها وأحاسيسها في رسوماتها، تلتفت هنا إلى التراث في صورته الأوسع.

هو فيلم عن الصيادين والبحر والبر. عن التقاليد المرمية في التاريخ في مقابل الحضارة العصرية التي تسود الحياة اليوم. طبعا ما زال هناك صيادون، والفيلم يدور حولهم اليوم، لكنهم إذ ينشدون ويغنون ويرقصون ويؤمون البحر لاصطياد ثرواته السمكية كما كان يفعل أجدادهم، يشكون من أنهم قد يكونوا آخر عناقيد أجيالهم.

نتعرّف على سيف الزبادي الذي كان صيّادا ومنشدا يؤم الرحال في اتجاهات صيد مختلفة وبعيدة. الآن بات يجلس في منزله العادي بينما يقوم بعض أولاده بالعمل مكانه. نتعرّف على أولاده وعلى شخصيات تشكّل نواة التلاحم بين الأسر التي عاشت فوق المراكب كما على بعض العاملين الهنود المهاجرين الذين أمضوا في هذه الحياة عقودا.

مثل أفلام نجوم الغانم السابقة، النبرة حزينة. صوت الفيلم هامد ويحمل شجونا. الشخصيات لديها الكثير من الحكايات وما فيها من أفراح وابتسامات يكمن في الماضي وليس في الحاضر. نجوم ما زالت الأولى بين كل مخرجي السينما الخليجية (رجالا ونساء) في معرفة تقنيات ما تقوم به لخلق حالات وجدانية آسرة ولدمجها في المحيطين الاجتماعي والمكاني. لقطاتها (تصوير جيّد من الإيطالي ماركو باسكويني) دوما معبّرة. الكاميرا صامتة. راصدة وملاحظة والشخصيات هي التي تتكلّم، عوض أن تعايش الكاميرا حالة الشخصيات فتخلق قلقا لا لزوم له.

ما يتعثّر في هذا الفيلم هو وحدته. على سعة شخصياته وتداولاته ومواده، لا يستطيع الفيلم إلا أن يتكرر في أكثر من موضع. لا يعني ذلك أنه يثير بتكراره أي ملل أو أن سرده يضعف أو يتهاون، لكن سيره يتباطأ بعض الشيء في مكانين أو 3 معرّضا المشاهد لطرح يتكرر هنا أو هناك.