«ملتقى البرلس» لـ«الرسم على الحوائط» في مصر.. يعيد الفن للشارع

أسماك تتقافز على جدران البيوت وزوارق تبحر في الألوان

(في الاعلى) جدارية طلبة كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية في الملتقى،(وفي الاسفل) الفنان عادل مصطفى في لقطة تذكارية مع الأطفال أمام لوحته «جدارية السمك»، فنانات في لقطة مع نساء القرية أمام إحدى اللوحات.
TT

تجربة جمالية لافتة، يخوضها أكثر من 30 فنانا من أجيال ومشارب فنية متنوعة، تحت شعار «الرسم على الحوائط»، تقيمها مؤسسة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن للثقافة والفنون والتنمية، بمحافظة كفر الشيخ الممتدة من وسط دلتا مصر حتى البحر المتوسط، ويدعمها محافظها المستشار محمد عزت عجوة.

اتخذت التجربة من قرية برج البرلس المطلة على البحر المتوسط فضاء بصريا لها، يعايشه الفنانون المشاركون، ويتفاعلون مع إيقاع ونمط الحياة اليومية الخاصة للقرية، بكل خلفياتها الاجتماعية والاقتصادية الثقافية.

وخلال أيام من انطلاق الملتقى يوم 20 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، نجح الفنانون في التعامل مع طبيعة المكان واكتشاف أبعاده البصرية، والتآلف بعفوية وسرعة مع ناسه، وعوالمهم البيئية الخصبة التي يتركز أغلبها في مهنة صيد السمك من بحيرة البرلس، كما نجحوا في جذب أهل القرية خاصة الشباب والأطفال إلى مراسمهم المفتوحة على جدران البيوت والأبواب والمحلات والمقاهي، ليشاركوهم عملية الرسم والتلوين بشكل وصفه أحد الفنانين المشاركين بقوله: «عدوى الفن انتشرت في القرية، وخلقت حالة تنافسية حتى بين أهلها البسطاء».

ودشنت مؤسسة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن هذه التجربة تحت اسم «ملتقى البرلس الأول لفن الرسم على الحوائط». وحسبما تقول الفنانة إيمان عزت «كومسير» الملتقى، فإنه يسعى إلى خلق حالة تفاعلية بين الفن والمجتمع، ومحاولة تغيير الصورة الذهنية عن الفن، بأنه فن الصفوة، إضافة إلى تفعيل دور الخيال والثقافة وتلقي الفن بروح جديدة، من قبل الجهور، تتسم بالتلقائية والعفوية.

وتضيف إيمان لـ«الشرق الأوسط» بنبرة فرح: «أدهشنا هذا التجاوب الحي والمحب من أهل البرلس مع الفنانين المشاركين، لدرجة أنهم أصبحوا يتبارون في تهيئة حوائط بيوتهم وأبوابها البسيطة لرسومات الفنان وتنظيفها، وتنظيف الشوارع والحواري المحيطة بها، وهذا في حد ذاته احتفاء فطري بقيمة الفن، خلق حافزا وطاقة جميلة لا تحد لدى الفنانين أنفسهم على توصيل رسالة الفن بمنتهى البساطة والتلقائية والمحبة لهؤلاء البشر.. ناهيك بالحفاوة والالتفاف الجماهيري الذي يلقاه المشروع كله من قبل أهل القرية، فهم يضعون أنفسهم في خدمة الفنانين، بمنتهي الطيبة والحب والكرم والحب».

وتذكر إيمان أنه تم تدشين هذا الملتقى من قبل مؤسسة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن، والمسؤولين بمحافظة كفر الشيخ، على أن يقام بشكل سنوي في التوقيت نفسه، وفي هذا المكان، بحيث تجدد التجربة نفسها كل عام، وتتسع لتغطي القرية وقد تمتد إلى قرى أخرى مجاورة لها.

وتلفت إيمان إلى أن الملتقى كل يوم يستقبل فنانين جددا من شتى الأجيال يودون المشاركة، و«هذا مؤشر أولي على نجاح الفكرة، وأيضا الفرح بها من قبل الفنانين والجمهور»، مشيدة بالدور والدعم الذي يقدمه محافظ كفر الشيخ للملتقي، من توفير الخامات والإقامة والإعاشة للفنانين، وأيضا وسائل التنقل بين الفندق بمصيف بلطيم، والقرية مشروع الملتقى.

«الشرق الأوسط» عاشت على مدى 3 أيام أجواء هذا الحدث، اختلطت بالفنانين وهم يرسمون وتحدثت معهم، ورصدت الفرح بالفن والرسوم على وجوه الأطفال والشباب والنساء والرجال، وحالة التنافس الشيقة بين أهالي القرية لجذب الفنانين، ليرسموا على جدران بيوتهم، لوحاتهم التعبيرية العفوية المستقاة من المفردات الطبيعية الخاصة بالمكان وإيقاع حياته اليومية، المشدودة بين قوسي البحر والبحيرة وصيد السمك.

يطلق الفنان أحمد عبد الكريم ضحكته الرنانة وهو يضع اللمسات الأخيرة على لوحته الحالية التي لم يتخل فيها عن «الهدهد»، رمزه الأثير، ويقول: «أنا فرحان وفي حالة نشوة نادرة، لقد أعاد هذه الملتقى للفن روح الفرجة.. شيء جميل أن ترسم وكل هؤلاء الأطفال مشدودة أبصارهم إليك ببراءة وطفولة، تشبه طفولة الفن، والأجمل أن يحييك رجال ونساء القرية الطيبون بمحبة خالصة، وكأنهم جزء من نسيج اللوحة».

ثم تتسع ضحكته وهو ينادي على الطفلين «منصور» و«أحمد» وبمرح يصيح فيهم: «هيا يا فنانين، ادهنوا جدار السلم باللون الأبيض.. عايزين نخلص اللوحة قبل الهدهد ما يطير». الطريف أن أعدادا من الهداهد بدأت تتوافد على شرفات الفندق المقيم به الفنانون، وهو ما جعل أحدهم يعلق: «هداهد أحمد عبد الكريم تلازمه كظله.. بركاتك يا فنان». وعن انطباعه الشخصي حول تجربة الملتقى، ودوره في إثراء الحركة التشكيلية في مصر، وتوصيل رسالة الفن إلى المجتمع، يقول الفنان عادل مصطفي الذي رسم الأسماك وجعلها تتقافز على جدران أحد البيوت: «أهمية هذه التجربة أنها تكسر السياق التقليدي للفن، وتطلقه إلى فضاء بكر للناس البسطاء، وتأكيد لدور الفن في المجتمع بعيدا عن حصار دور العرض.. كما أنها تخلص الفن من فكرة التزيين والتجميل، والتجريد الأصم المغلق، فهنا نحن نمارس الفن على فطرته، نرسم مفردات وأشكالا وحكايات حميمة من طينة المكان نفسه، لذلك تتأثر الناس بأعمالنا وتتفاعل معها وتحبها، لأنها تعرفها وتعايشها».

يتابع مصطفى: «المكان هنا في القرية عبقري، يمتع بإطلالة فريدة على البحر، وليس أجمل من أنك ترسم في حضور الأطفال.. عيونهم مشدودة لخطوطك وألوانك، حتى إنني أجعلهم يشاركون أحيانا في التلوين والرسم، وهم سعداء بذلك، وكثيرا ما أكتشف طاقات فنية مدفونة في داخلهم تحتاج للتشجيع والتحفيز. كما أن الاحتكاك الدائم مع الناس في الشارع، وفي مشاهد الصيد، يجعلنا نعيد اكتشاف هوياتنا وحبنا للفن». وحول تطعيم رسوماته أحيانا ببعض العبارات، قال: «اكتشفت كنزا فريدا، عبارة عن كتابات، لها طابع الأشعار والحكمة والأمثال الشعبية، مكتوبة على جدران مراكب وزوارق الصيادين، وهي مغوية جدا، لذلك قمت بتضفيرها في رسمة على أحد البيوت، لتعكس حالة فنية أعتقد أنها مبهجة ومفرحة، كما أنني سأختزنها في ذاكرتي، ربما أوظفها كتيمة أساسية في أحد معارضي الشخصية».

ويشدني بيده الملطخة بالألوان الطفل منصور لأتوجه لسيدة على مقربة منا ترجوني أن يهديها الفنانون رسمة على جدار بيتها، وتقول، وهي تشير إلى الجدار: «أنا نظفته وغسلته، ولو عايزين أدهن لهم الأرضية معنديش مانع». وبالفعل استجاب أحد الفنانين، ووضع لسماته الفنية على الجدار، في لوحة مبهجة اختلطت فيها الطيور والزوارق والنباتات بزرقة السماء.

ولفتت الفنانة الشابة يارا شافعي، أصغر الفنانات بالملتقى، الأنظار إليها، بتجمع أكبر كوكبة من الأطفال حولها وهي ترسم.. تمرق أحيانا بينهم، مجموعة من الماعز الطليقة، وتتهادى بقوامها الرشيق، وهي تتأمل ضربات الفرشاة وانثيال الألوان على الجدار.. الطريف أن يارا تأثرت بهذا المشهد، وكانت الوحيدة التي أدخلت الماعز في رسوماتها.. وتعلق قائلة: «الأطفال لطاف، والماعز هادئة ووديعة، وأنا سعيدة بوجودي وسط هذه الكوكبة من الفنانين الكبار والأساتذة، أيضا سعيدة بالناس وفرحهم بالرسوم والملتقي. نحن في مرسم مفتوح وحي.. وهذا شيء ممتع».

ويقول الفنان عماد عبد الوهاب، أحد المشاركين في الملتقى: «أنا فرحان بالمشروع، وأرى أن هذا الملتقى أعاد اكتشاف فكرة الفن التفاعلي، ونقلها بسلاسة من طور الفكر النظري المجرد إلى أرض الواقع، إضافة إلى فرادة المكان الذي منح الفنانين منظومة بصرية حيوية على البحر، ووسط ناس بسطاء طيبين، يتمتعون بإحساس فطري شديد الصدق، كل ذلك خلق لغة جديدة، وحالة خاصة من التواصل العفوي مع الفنانين ورسوماتهم، تفتقدها مؤسسات حكومية معنية، مثل جهاز التنسيق الحضاري المعني بالمحافظة على الجمال في ميادين وشوارع القاهرة والأقاليم، وعلى التراث الأثري المعماري، لكن لا أثر فعليا لهذا الجهاز على أرض الواقع، رغم ما يتوافر له من إمكانات».

ويناشد عماد أجهزة ومؤسسات الدولة، والجمعيات والمراكز المدنية ورجال الأعمال بدعم هذا الملتقى، لتتسع آفاقه، وتتكرر التجربة في أماكن أخرى، مشيدا بالمجهود الذاتي والصادق لمؤسسة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن، التي نهضت بهذا الملتقى، وجعلت منه حياة مجتمعية حقيقية، ونافذة حية للقاء الفن مع المجتمع.

الأمر نفسه يؤكده الفنان حاتم شافعي، رئيس قسم النحت بكلية التربية الفنية بجامعة القاهرة، أحد المشاركين في الملتقى، ويقول: «هذا الملتقى صحوة فنية حقيقية، وهو فكرة نبيلة ومغامرة شجاعة ورائدة من قبل الفنان عبد الوهاب عبد المحسن، والمطلوب دعمه على شتى المستويات من مؤسسات حكومية وخاصة، وأتمنى أن تلتفت له الدولة، وتدعم الجهود المشكورة التي قدمها محافظ كفر الشيخ للملتقى، ليتسع ويحافظ على نموه وفعاليته عاما بعد آخر».

وذكر شافعي أنه عائد من طنجة بالمغرب، حيث كان يقيم معرضا خاصا هناك، وشاهد تجارب مماثلة للملتقى، «لكن المكان هنا والإمكانات الفنية أكثر رحابة وتنوعا وعمقا، ومن المكن أن يشكل هذا الملتقى نواة لدولة ثانية موازية قوامها الجمال وحب الفن، وأيضا ممكن أن تقام على هامشه مشاريع تخدم السياحة وتدمج الفن بالمجتمع، في إطار من الرقي والحضارة».

وأكد شافعي أن أجمل ما في هذا الملتقي أنه جعل الفن يمشي بين الناس، «فالرسوم متألقة على البيوت والأبواب، وهي محببة، لها الكثير من الذكريات في وجدانهم، ومشاعرهم وانفعالاتهم اليومية بالحياة»، قائلا: «لقد أصبح الفن عدوي جميلة في القرية، وخلق حالة تنافسية شيقة بين الناس، لدرجة أن بعضهم أحيانا يرجو الفنانين لكي يرسموا على جدرانهم رسوما محببة لديهم، شاهدوها على جدران جيرانهم وأصدقائهم.. هذا الحس الإنساني النقي بالفن، يندر أن تجده في مكان آخر، لكن الملتقى فجره بمحبة بين هؤلاء الناس البسطاء».

وأقام الملتقى ورشة للأطفال، قامت الفنانة حنان موسى خلالها بتعليمهم فنون صناعة «المساك» من الورق، وتلوينه بشكل جذاب، كما شاركت في الملتقى ليوم واحد، مجموعة من طالبات كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، وصنعوا جدارية جماعية لافته تحت إشراف الفنان عادل مصطفى.

ونظرا لتوافد كثير من الفنانين على الملتقى ورغبتهم في المشاركة فيه، قررت إدارته مده ليكون حفل الختام يوم 4 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، بدلا من 30 أكتوبر الحالي تزامنا مع العيد القومي للقرية، الذي يوافق ذكرى معركة برج البرلس البحرية الشهيرة، في عام 1956، عندما هاجمت بارجة فرنسية ومدمرة بريطانية مدعومة بطائرات حربية، الشواطئ المصرية. واستطاعت 3 زوارق طوربيد مصرية بقيادة جلال الدسوقي وفي دقائق تدمير المدمرة البريطانية والبارجة الفرنسية.. واستشهد في المعركة أغلب القوات المصرية، ومن بينهم الضابط السوري جول جمال. وسجلت المعركة واحدة من المعاركة البحرية المهمة، خصوصا أن الزوارق المصرية الثلاثة كانت مسلحة بتسليح بسيط دون غطاء جوى وتصدت لوحدات ضخمة وثقيلة مهاجمة ومدعومة بغطاء جوى، ومنعتها من تحقيق هدفها.

عن هذا التأجيل والملتقى يقول الفنان عبد الوهاب عبد المحسن، صاحب مؤسسة الثقافة والفنون والتنمية، التي يرجع إليها الفضل في إقامة الملتقى: «هذا التأجيل أصبح ضرورة لنتيح أكبر فرصة أمام الفنانين الراغبين في المشاركة، ولنحتفل بختام الملتقى في ذكرى معركة البرلس العظيمة».

وعن فكرة الملتقى يقول: «الرسم على الحوائط يعني رسوما غير ثابتة لأن فعل الرسم هو المقصود، وتفاعل الأهالي والأطفال مع الفنانين ومعايشة الحدث ذاته وتكراره كل عام سيغير من سلوك الناس وينمي الإيجابية تجاه المشاركة واكتشاف المواهب من خلال الجرأة في الرسم المباشر وعدم الخوف، مما ينمي الشخصية عند الأطفال».

ويوضح عبد الوهاب لـ«الشرق الأوسط» أن الملتقى سيكون سنويا ضمن مهرجان فنون مدن الصيادين في حوض البحر المتوسط، وسوف يضم المهرجان فنونا تشكيلية وحرفا يدوية وأنماط الأكل والشعر والأغاني والفنون الشعبية، وسوف تتخلله مسابقة للصيد في بحيرة البرلس، وستقوم المؤسسة بالتنفيذ بدعم من المحافظة.