شاشة الناقد: لكي لا نفهم غودار

من «وداعا للغة»
TT

أدوار أولى: إلواز غوديه، كامل عبدلي، ريشار شيالييه، زاو برونيو، جسيكا إريكسون.

تقييم الناقد: (*4) بعد عرض هذا الفيلم في مهرجان «كان» الأخير، ينتقل إلى عروضه الأميركية منذ أسبوعين منجزا بين النقاد الأميركيين النسبة ذاتها من الإعجاب التي حققها بين النقاد الذين حضروا المهرجان الفرنسي.

في الـ83 من عمره وفي زمن يهاب التجديد، جان - لوك غودار هو شاب أكثر من ابن الـ30. وهو يبقى الشأن الأغرب بين سينمائيي اليوم وأكثرهم تمسّكا بممارسة أعمال لا هي روائية ولا هي تسجيلية ولا هي مزج بين الاثنين إن وُجدا، بل سرد بالصور والكلمات المركّبة على تناقض ومن دون التئام لتقول أشياءها حول العالم والحياة التي نعيش من وجهة نظر تعكس موقفا نقديا حادّا حيال الإنسان الحاضر وغياب الأخلاقيات والآيديولوجيات وسقوط كل شيء.

يضع غودار هنا ما يخطر له نصا وما يخطر له شكلا أيضا وهو يتحدّث عن الأدب والكتابة (دستويفسكي، باوند، ماري شيلي) وعن الموسيقى والفن عموما، كما عن الماء والطبيعة والأشجار ولا ينسى هتلر ولا تصوير بطليه عاريين معظم الوقت.

ثم هناك شريط الصوت. جملة من المتحدثين في كل ما سبق وسواه. معظمهم بعيد عن الكاميرا. موسيقى. صوت ماء. موسيقى. صوت تعليق. موسيقى. صوت الممثلين.. وكلها تتداخل ولا تمتزج. لو امتزجت لفُهمت.

إذا كان لا بد من الحديث عن قصّة فليس لهذه وجود، لكن هناك خط لسرد الفكرة يتلخّص في لقاء بين رجل وامرأة يتبادلان الحديث حول كل ما سبق والرجل هو الذي يصل إلى نتيجة أن الكلاب هي الطبيعية وحدها كونها عارية. خلال ذلك، يصوّر غودار كلبا في غاية من الأشجار. يشم ويبحث. هل هو الوحيد الذي لا يزال يمارس دورا طبيعيا في الحياة؟

على نحو مخيف، يسجّل المخرج انهيارا في القدرة على التواصل بين البشر (عنوان الفيلم) على أي نحو ممكن. لذلك ينجح في تجسيد هذا التسجيل عبر كلمات تعلو كلمات وصور فوق صور وخليط من اللقطات والأصوات التي لا ترتيب لها سوى في بال مبدعها.

غودار مخرج مفكّر يودع أفكاره في أفلام ذات معالجة من الخصوصية بحيث لا يهم تحليلها. هي دفق من اللقطات والمشاهد غير المتجانسة والناقد عليه أن يكون مستعدا للكتابة عنها من زاوية مختلفة تماما عن تلك التي يكتب من خلالها عن الأفلام الأخرى ويعاينها. الوحيد الذي يمكن أن يكتب عن فيلم غودار كهذا الفيلم وعلى نحو كامل ودقيق هو غودار نفسه.

رغم كل ذلك، يتوقّف الفيلم عن صنع الفن ويؤم، باكرا، منطقة الانشغال بتصاميمه المتشابكة. «وداعا للغة» يبقى مجرد اختلاف عن السائد يُقدّر لمنطلقاته ورسالته السياسية، لكنه يحتاج إلى بعض مفردات التعبير السليمة والخالية من الكسر.

تستشف علاقات بين هذا الفيلم وسوابقه. من «نفس لاهث» (أول أفلامه، 1960) مرورا بأعماله الفوضوية في السبعينات والثمانينات، إلى أعماله الأكثر رسوخا في مضمار منهجه الذي يستمد من التجريب جزءا ومن التغريب جزءا ومن الرغبة في معاكسة التيارات جميعا وإطلاق أفلام قد لا يفهمها الجمهور الشاسع مدركا أنه لن يقبل عليها، ولو أن هذا لن يوقفه أو يمنعه من مواصلة الحكي.