المشهد: أكثر من مجرد خطة عمل

TT

* تتكاثر الأفلام العربية التي تبدأ عروضها بعرج واضح. منذ البداية يداهمك الفيلم بلقطات قد لا تكون خير ما يمكن اختياره من مشاهد تمهيدية. وإذا كانت، فإن الفيلم بعد 5 دقائق قد ينسف ما سبق عندما لا يعرف كيف يكمل ما بدأه بالقوّة نفسها. في أحيان كثيرة هناك حواجز واضحة بين الكتابة وبين الإخراج، حتى ولو كان الكاتب هو المخرج: هو أراد شيئا والفيلم توجّه لشيء آخر ولو كان الكاتب - المخرج ما زال يعتقد أنه يتحدّث عما قام بكتابته كليّا.

* في الواقع المشاكل النابعة من السيناريوهات المكتوبة كثيرة. مثلا في أحد الأفلام الحديثة التي شاهدتها في مهرجان «أبوظبي السينمائي» يمضي الفيلم 3 أرباع الساعة أو أكثر قليلا وهو يعيد ما كان قدّمه بوضوح في الدقائق الـ5 الأولى حول الشخصية الرئيسة التي يتحدّث عنها. بعد تلك الفترة يقع التغيير. هذه الشخصية تتغيّر كسلوك ويبدأ بالتفاهم والتصالح مع من حوله. أحد الزملاء قال إن العيب الوحيد في الفيلم هو أن هذا التغيير تم فجأة. الواقع أن هذا العيب بدأ باكرا وفي الدقائق الـ7 الأولى. ما حدث هو التالي: كتب المخرج سيناريو حول صبي مراهق يعادي النظام العائلي والمجتمع ويتسبب في مشاكل كثيرة لنفسه ولغيره. المشكلة هي أنه في تلك الدقائق الـ45 أو نحوها لم يجد السيناريو لتقديم هذه الصورة سوى توفير الأمثال على سلوك الصبي. في اليوم الأول، ترك البيت ليلا وتسبب في قلق والده وجدّه. في اليوم التالي سخر من جدّه وأثار غضبه. في اليوم الثالث استخدم الطلاء لكي يشوّه جدران وأبواب الجيران في المبنى. في يوم آخر حاول السرقة من المكان الذي يعمل والده فيه وفي اليوم التالي هاجم والده بسكين. وهكذا مضى الوقت من دون الانتقال من مرحلة إلى أخرى. من دون أحداث تنطلق من هذه الأمثال إلى صياغة تطوّر ما.

بكلمات أخرى، لم يوظّف الكاتب الدقائق الثمينة في ابتكار أحداث تمهّد لذلك التغيير الذي أصاب الصبي ما جعل التغيير يأتي مفاجئا وغير مقنع. كل ما استطاع المخرج فعله هو تحويل عبوس البطل الصغير إلى ابتسامات لأنه ليس هناك مادة حقيقية توجّه الشخصية والفيلم بالتالي.

* جميع المخرجين العرب يوافقون على أهمية السيناريو من حيث أنه أكثر من مجرد خطّة عمل. لكن القلّة منهم تعرف كيف تكتب السيناريو الصحيح. ولا تعرف لماذا، إذا كانت الموافقة بالإجماع هكذا، لم لا يعمد المخرج أن يدرس الكتابة أو أن يستعين بكاتب آخر.

* ذات مرّة طلبني المخرج التونسي رضا الباهي لمشاركته كتابة سيناريو تدور نصف أحداثه في الولايات المتحدة. شعر أنه لا يعرف الكثير عن الثقافة والمجتمع الأميركيين لكي يتحدّث فيهما. والنتيجة أننا أنجزنا سيناريو رائعا ولو أن المخرج أخفق في أن يجد التمويل اللازم له فتم دفنه ثم تغيير المشروع برمّته وحذف ما له علاقة بأميركا.

* هذا لم يتم عبثا. العلاقة بين المخرج والكاتب الذي سيستعين به، سواء ليسند إليه الكتابة منفردا أو بالمشاركة، يجب أن تكون نموذجية. تبدأ بمهنية عالية وثقة أعلى. وعليها أن تتخلّى عن حس قاتل منتشر وهو الاعتقاد أن على المخرج أن يكون ديكتاتوريا. هوليوود والسينما الغربية بأسرها لم تصل إلى ما وصلت إليه عبر هذا السبيل ومخرجوها الكبار لم يبدأوا ديكتاتوريين بل مبدعين والفارق كبير جدّا.