افتتاح باذخ لمهرجان «الأندلسيات الأطلسية» بالصويرة

في ليلة تألق فيها فنانون مغاربة.. مسلمون ويهود

حاييم لوك وعبد الرحيم الصويري خلال حفل افتتاح «مهرجان الأندلسيات»
TT

كل توابل المتعة الفنية كانت حاضرة في افتتاح الدورة الـ11 من مهرجان «الأندلسيات الأطلسية»، الذي انطلقت فعالياته ليلة أول من أمس بالصويرة، لتتواصل على مدى أربعة أيام: أربع ساعات من الأداء الراقي أداها فنانون مغاربة، مسلمون ويهود، تأكيداً لتنوع وتعايش ميز تاريخ المغرب منذ غابر القرون.

وانطلق الحفل بتقديم عمل فني أسطوري من خزانة الموسيقى الأندلسية المغربية، يؤرخ له بـ1832، السنة التي قدم فيها جوق موسيقي أندلسي صويري حفلاً فنياً أمام السلطان العلوي سيدي عبد الرحمان (1789 _ 1859) حين استقباله وفداً فرنسياً، كان ضمنه الرسام الشهير أوجين دولاكروا (1798 _ 1863).

كانت أربع ساعات من المتعة الفنية، أثث لها جمهور متنوع ونوعي، غصت به القاعة الكبرى للمهرجان، لم يجد إلا الآهات والتصفيق لكي يعبر عن سعادته بالفن والفنانين المتألقين أمامه.

وترافق نفض الغبار عن «القدام الجديد الصويري» مع استحضار المنظمين للوحة «اليهود الموسيقيون لموغادور»، لدولاكروا، التي تضمنتها مختلف ملصقات ومطويات دورة 2014، وهي «اللوحة الرمزية المعروفة، منذ بداية القرن التاسع عشر»، التي يقول عنها المنظمون إنها «بلغت للعالم أجمع تميز بلدنا وغنى تنوعه».

وتهدف استعادة علاقة الرسام الفرنسي الشهير بالمغرب، بشكل عام، والصويرة، بشكل خاص، حسب المنظمين، إلى «إبراز أصالة موسيقى تنبع نغماتها من أعماق ذاكرة المغاربة، وتوثق أواصر علاقات تاريخية متميزة، وتبرز إرثا بغناه الفني وتسامحه الديني، لا تشكل، فقط، لحظة من الأحاسيس المتقاسمة، بل فضاء متميزا وفريدا، تستطيع فيه الموسيقى أن تعبر عن نفسها، بمختلف التعابير والمضامين».

لكن، يتساءل منظمو مهرجان الصويرة: «لماذا وضعت نظرة وريشات دولاكروا على موكادور رغم أنه لم يسبق له أن جاء إلى هذه المدينة؟». والجواب، نجده مسجلا في مذكرات سفره، مختزلا في جملة «هذا أفضل ما يوجد بمملكتنا»، كما قال له السلطان مولاي عبد الرحمن، الذي حين استقباله لوفد فرنسي بقصره الملكي بمكناس، كان قد أحضر من الصويرة جوقاً يتكون من مسلمين ويهود.

كيف يمكن لفنان أن يرسم أجواء مدينة لم يزرها؟ إنه «صوت الصويرة» الذي تألق، قبل 182 عاما، في حضرة سلطان المغرب وضيوفه الفرنسيين بمكناس، من خلال الأداء الرائع للجوق الصويري، وهو يؤدي «القدام الجديد الصويري»، كما توضح فرنسواز أطلان، المديرة الفنية للمهرجان.

إنها قصة فنية بأكثر من بعد، تؤكد، حسب أندري أزولاي، مستشار العاهل المغربي، الملك محمد السادس، والرئيس المؤسس لـ«جمعية الصويرة موغادور»، «عمق ونوعية ومشروعية المدرسة الصويرية للطرب الأندلسي، وهي، أيضاً، تحكي تعايش وانسجام اليهود والمسلمين، وهو الشيء الذي يؤرخ لخصوصية الصويرة».

ويشدد أزولاي على أن «قصة القدام الجديد الصويري» لا تكتب في الماضي، فقط، اعتباراً لكون «مدينة الرياح» تهدي للمولعين، منذ عشر سنوات، مهرجانا فريدا، هو الوحيد في العالم الذي يبسط منصته للشعراء والمغنين والموسيقيين، مسلمين ويهود، حيث يحكون لنا، بأسلوبهم الخاص، عن فن الحياة الجماعية، حيث ميزة التشارك وتقديم الموسيقى والثقافة في أبهى ألوانها المعبرة عن مقاومة الانكماش أو النسيان أو الانكسار. ومن أجل أن يصير العيد مكتملا، فإننا في هذه اللحظة أمام باحثين شباب وموسيقيين صويريين، برئاسة عبد الصمد اعمارة، مدير المعهد الموسيقي بالصويرة، واللذين تمكنوا، بعد شهور من الاشتغال، من ترتيب ونقل تقاسيم وكلمات وتلحين المقطوعة الموسيقية، وذلك بمساهمة الفنان مولاي عبد الغني الكتاني، أحد الأساتذة القلائل الذين عملوا على تدريسها بالصويرة. إن هذه المقطوعة الأسطورية والمعروفة باسم «القدام الجديد الصويري» لم يكن قد وجد لها أثر أو نقل أو أداء منذ أوائل القرن التاسع عشر. وقال عبد الغني الكتاني، وهو شيخ المادحين والمسمعين بالصويرة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «القدام الجديد الصويري» يمثل تاريخ الصويرة، المدينة التي تجلى فيها تسامح الثقافات الثلاث: الإسلامية واليهودية والمسيحية، لذلك اختارها السلطان العلوي سيدي عبد الرحمن ليقدمها لضيوفه الفرنسيين.

وأبرز الكتاني أن «(القدام الجديد الصويري) يمثل عمق التصوف، لذلك نقرأ ضمن كلماته: «لله من ساعة جاد الحبيب بها؛ أحيا بها الروح بعد الموت والعدم؛ قد بشرت بقدومكم ريح الصبا؛ أهلا بكم يا زائرين ومرحبا؛ استنشقت أرواحنا أريج اللقا؛ يا حبذا قرب الزيارة أطربا».

وإلى جانب هذا الربط الفني بين الماضي والحاضر، من خلال لوحة «اليهود الموسيقيون» لموغادور ومقطوعة «القدام الجديد الصويري»، فقد تألق في حفل الافتتاح كل من الجوق التطواني برئاسة الأستاذ محمد أمين الأكرمي، الذي شاركه في الأداء حاييم لوك وعبد الرحيم الصويري وبنيامين بوزاكلو والأخوين أبراهام وغابرييل أوحيون ودينار هشام الصويري، فضلا عن سناء مرحتي وعبير العابد وزينب أفيلال وشادي فتحي وفاتن كارتي، قبل أن تتابع السهرة، بعد منتصف الليل، بـ«دار الصويري»، بفقرات فنية روحانية مع طائفة «عيساوة».

وضمن البرنامج الفني لباقي أيام التظاهرة، سيضاف إلى الفنانين المشاركين في حفل الافتتاح، فنانون آخرون كرشيد أوشاهد وجلال شقارة وعبد المجيد الصويري والمجموعة النسوية للسماع بالصويرة، فضلا عن لحظات فنية روحانية مع طوائف درقاوة وحمادشة والتيجانيين، وكل المجموعات التي تؤسس لروح الاتجاهات والأذواق الموسيقية، بفضل عطاءات وتنظيم الحاج مارينة والحاج الهالب وحمزة جورتي وآخرون. وكما جرت العادة، تخصص صباحيات المهرجان للنقاش الفكري في إطار منتدى، الذي يشارك فيه مثقفون ورجال فكر، يتناولون بالعرض والنقاش مضمون وتوجه الأفكار التي سعت التظاهرة، منذ انطلاقتها، إلى طرحها والاحتفاء بها.

وشدد فرنسواز أطلان على أنه بعيدا عن «الهويات القاتلة»، تنخرط الصويرة ضمن اختيار التعايش والتشارك، التي تم تخطيطها منذ قرون، يتم التعبير عنها من خلال أصوات متعددة تنسج بسعادة بالغة أغلى عمل غير قابل للتغيير، بدينامية لا متناهية. ويفتخر مهرجان «الأندلسيات الأطلسية» أن يكون المعقل الجليل لهذه التاريخ الإنساني وهذا الإرث الفني.

وأخذاً بعين الاعتبار أهداف المهرجان، التي يبقى على رأسها «توثيق أواصر العلاقات التاريخية العربية الإسلامية اليهودية»، فإنه يحسب للتظاهرة أنها استطاعت أن تبرز نموذجا فنيا، غنيا ومتفردا ومتنوعا، في ماضيه، يمنح مدينة الصويرة، في الوقت الحاضر، فرصة استعادة واستحضار تلاقح ثقافي أثرى لحظات مهمة من تاريخ منطقة الغرب الإسلامي، أو، كما يقول أندريه أزولاي: «إنعاش الذاكرة واسترجاع نفحات حضارية مشرقة من فترات التعايش والتمازج الثقافي، بدل الصور الكارثية التي أصبحت تتصدر وسائل الإعلام».