المنظومة الفقهية من التقليد إلى التنوير والتحرير

هل الفقيه قادر على إنتاج منظومة معرفية حديثة اليوم؟

TT

قادت النخبة الدينية عموما والفقيه على وجه الخصوص، عبر زمن ممتد مسيرة الفعل المجتمعي الإسلامي. ولم يكن ذلك بفعل القوة المادية العسكرية للفقيه وإنما بفعل الاختيار الطوعي الجماعي للأمة، التي كانت تنظر للفقيه باعتباره الوجه العملي للمرجعية الإسلامية. ومع تحولات المجتمعات الإسلامية، وتقهقر ذهنية الفقيه بتركه الاجتهاد وانغماسه في التقليد وفقه المختصرات واختصار المختصر، ازداد تقهقر الأمة.

ومع الهجمة الاستعمارية، وبعد ميلاد الدولة القُطرية، ازداد عجز النخبة السائد عن مواجهة الإشكاليات المتراكمة داخليا وارتباط الأزمة الحضارية بالخارج. فبقي الوعي الديني مهموما بمركزية الدفاع عن الدين وحصونه المهددة من الخارج الاستعماري، ومن الداخل المبتعد عن عقيدة السلف الصالح فهما وتنزيلا.

هكذا انتقلت النفسية الدفاعية التي اعتبرت العقيدة وعلم التوحيد دفاعيا ومكتفيا بذاته، إلى ذهنية عامة ومنطلقا مركزيا لرؤية للعالم، يتم من خلالها عرض تصور الفقيه وارتباط منظومته المعرفية بغيرها من المنظومات العلمية المستجدة، توحيدية المرجعية كانت أم وضعية مادية ماحقة للدين.

وقد اشتغلت هذه الذهنية بشكل زائد ومذموم ضمن رؤية معرفية مهزومة ومغلوبة، متمسكة بتراث ديني دفاعي غير تعارفي، مستعملة في ذلك مناهج وأدوات علمية حمائية، انتهجتها المنظومة الفقهية في سياق خبرة تاريخية مخترقة بأزمة ثقة.

فعوض إعمال المنهج القرآني المستند على ركني التنوير والتحرير. واعتبار الأول، إخراجا للإنسان من الظلمة إلى النور؛ والثاني، تحريرا لإرادة المسلم من العبودية البشرية التسلطية، ونقلها لمجال العبودية لله تعالى وحده. تحولت إنتاجات الفقه التقليدي ومنظومته إلى شبه غياب عن حركة الإسلام ودعوته لاكتشاف أسرار الإنسان والكون والحياة، وما تمثله الظواهر الإنسانية من نظر علمي تعبدي في الأفاق والأنفس.

في زمننا الراهن، ساهمت تغيرات أحوال الأمة الإسلامية وتفاعلات الفقيه مع التحولات العلمية المختلفة، في إضعاف اعتبار الأصول الإسلامية من قرآن وسنة صحيحة مرجعية نهائية، بالمعنى المعرفي لكلمة «نهائية». كما عرقلت مناهج المنظومة الفقهية التقليدية، والمعاصرة المقلدة لها، ركن التنوير القاصد للانتقال بالأمة من دائرة الجهل إلى رحاب المعرفة العلمية؛ ومن ثم أضعفت تبعا لذلك وصل المسلم بالله، عبر تفعيل التعبد والتعرف على الله بالعلم ومختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية والحقة.

ولعل هذا ما يفسر كون الذهنية الفقهية تجد راحة نفسية كبيرة في الاستناد إلى منطلقات معرفية حمائية قديمة. ومثال ذلك، ما تواتر من تراث حول حماية «بيضة الإسلام»؛ وهذه المقولة كانت وما زالت تزعم أن الدين والحضارة العربية الإسلامية يواجهان أزمة البقاء وخطر التحلل والتغريب. مما يستوجب على العالم الفقيه قيادة معركة حماية الدين الموحد للجماعة بالتمركز حول الإسلام، وغلق أطره المعرفية وتجميعها بيد المتخصص في العلوم الشرعية.

لم تسحب هذه الذهنية من الأمة الإسلامية ومؤسساتها الأهلية حق حماية الإسلام وحسب، بل أنتجت قواعد فقهية، تنظم الحرفة العلمية للفقيه، في شبه انعزال ومخاصمة لتطور العلوم ومناهجها الحديثة والمعاصرة. في الوقت الذي استدعى الفقيه إشكالات التراث والماضي التاريخي وأدمجها قسرا في الوعي الديني المعاصر.

وهكذا اتسع مفهوم المرجعية الإسلامية، ومفهوم النص الديني الشرعي ليشمل كلام الفقيه ومنهجه في الاستدلال وإنتاج المقولة. وأصبح كلام الفقيه عبر مرور الزمن يكتسب نفس قدسية نصوص الشريعة والسنة القطعية؛ وطبقت آليات إثبات الوحي، وطرق الاستدلال به على آراء الفقيه واجتهاداته، دون مراعاة للفروقات بين القول البشري للفقيه والنص الشرعي الإسلامي المعصوم، ودون مراعاة كذلك لتناقضات نصوص الفقه، والاستعمال العلمي الحسن لما عرف عند الأصوليين «بالتعادل والترجيح». وهكذا صار التقليد شرعة دينية، ومصدرا للتشريع وجب على عموم الأمة الالتزام به، واستنباط الأحكام من نصوص الفقيه الاجتهادية.

ولأن الفقيه اكتسب شرعية التشريع، و«أصبح رجل قانون»، فقد أصبحت بعض القواعد الفقهية «نصوصا شرعية جديدة»، مما ساهم في انقلاب مصدر التشريع، خاصة مع اتجاه الفقه نحو التدوين والتقنين، مع استصحاب فكرة الضبط والإكراه بدل الالتزام الطوعي الجواني، المقرر في فلسفة القرآن وأحكامه.

وكما هو واضح اليوم فقاعدة «درء المفسدة مقدمة على جلب المصلحة»، أضحت حقيقة علمية غير قابلة للتجاوز والتعديل، رغم ما يفوت ذلك على الأمة من مصالح معتبرة شرعا ومتسقة مع مقاصد الشريعة. فمن الطبيعي أن توسع العمران البشري يفضي بالضرورة لتكثير المصالح، وأن تكثير هذه الأخيرة عبر الحرص على جلبها، يقوض من الأساس تكون المفسدة وبالأحرى انتشارها.

ويكون الأمر أصعب، عندما يؤخذ بعموم هذه القواعد التي تأكل من مساحة الفعل والإرادة عند المسلم المعاصر. فقد أصبحت قاعدتا «سد الذرائع» و«الأخذ بالأحوط»، تأطيرا معرفيا للتشدد وانغلاقا من داخل الدين فهما ودراية وسلوكا. فلما كان هذا الأمر وترسخ، انتقل التدين من المرتكز القرآني الموجب للتراحم بين الناس، وبين الإنسان والحيوان، إلى تبرير «عام» للفتنة والتقاتل والتكفير من داخل الدين وباسمه، سواء بين المذاهب السنية المتباينة، أو بينها وبين غيرها من المذاهب من أهل القبلة.

ولأن طبيعة الرؤية الفقهية التقليدية والمقلدة لها، تحاول جاهدة تحقيق الانسجام الداخلي الممتد عبر الزمن، فقد كان من الطبيعي ألا يعي الفقيه والعالم المقلد دوره إلا من خلال رؤيته هو للعالم، لا من خلال تغير الأحوال المجتمعية والأفعال والأزمان. ومن هنا يمكننا فهم فوضى الفضائيات الدينية والاستفتاء العشوائي، وحتى البرامج الدينية التجارية المعولمة. فرغم رفع الحصار التقني والإعلامي المفروض على بعض النخب الدينية والعُلمائية، لم يستطع الفقه مجاراة الواقع المتحول، وتداخلاته المعقدة اجتماعيا، وسياسيا واقتصاديا. كما ظهرت المنظومة الفقهية وهي تتعرض لهزة داخلية عنيفة، من جهة تضارب القول الفقهي حول قضايا أساسية للأمة ومعيشها اليومي المرتبط بالديني والدنيوي.

من هنا، أصبح من اللازم على المنظومة الفقهية الإسلامية الخروج من بؤرة التراث الديني الدفاعي، الدائر حول شخص الفقيه باعتباره خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ للدعوة، والانتقال إلى نادي المنظومة العلمية الشبكية المعاصرة، التي يحضر فيها الفقهاء كجزء من مؤسسة علمية دينية متجاورة ومتنافسة مع مؤسسات علمية متعددة ومتنوعة، مقصدها بناء المجتمع الإسلامي في إطار مقاصد الدين الروحية والدنيوية المعاشية.

وإذا كان هذا هو الطريق القويم لتجاوز التقليدية الدينية، وإعادة الاعتبار للتنوير والتحرير بمرجعية إسلامية؛ فلا محيد كذلك من اعتبار الأمة هي المسؤولة الأصيلة عن حماية الدين وليس الحاكم أو الفقيه. ذلك أن عصر الحاكم الفرد والفقيه الفرد، انتهى مع بزوغ عصر المؤسسات العلمية المتعددة؛ وقد سبق للمنظومة الفقهية الأندلسية أن وعت التطورات الحادثة بالأندلس ومحيطها، فبادرت إلى تأسيس ما يشبه مجاميع فقهية تتخذ القرارات بأغلبية آراء الفقهاء في «المجمع». هذه السابقة التاريخية الإسلامية التي انتهجتها خبرة المنظومة الفقهية التقليدية الواعية، تمكن النخبة الدينية اليوم، من تجاوز شرعية الفقيه الفرد، وطرح وتأسيس خبرة جديدة للأمة، بالانتقال إلى بناء مؤسسات أهلية تمثل مجاميع فقهية مختلفة الاهتمامات، في ظل منظومة مجتمعية وفقهية منفتحة على جميع العلوم؛ ومدمجة لإيجابيات مأسسة العلم التي تطورت عبر مراكز البحوث العلمية المعاصرة، المعتمدة على شراكات مع المجتمع والدولة، وباقي الفاعلين المختلفين الداعمين لغاية تلك المراكز.

إننا اليوم وفي عصر العلم وباعتبارنا أمة حضارية لها مرجعيتها الإسلامية، ومدركاتها الجماعية، نحتاج لاستعادة كون الدعوة الإسلامية دعوة للتحرر والتنوير؛ دعوة مؤسسة على مضمونها الإلهي، لا على القول اللغوي التاريخي للفقيه، باعتباره نصا بشريا نسبي الفهم ومحكوما بظروف زمانه ومكانه؛ مما يجعلنا نحن مسلمي الألفية الثالثة، قادرين على تجاوزه، وتجاوز قصوره البشري لما نمتلكه من معطيات وأدوات علمية جديدة لم تكن عند السلف الصالح. وهذا بدوره يجعل قدرتنا على النظر المباشر، ودون وسائط في النص الشرعي الإلهي، نظرة علمية متفوقة، ومتجاوزة للاجتهادات السالفة مهما بلغ تمجيدها وتأليهها عند الفقه التقليدي والمقلد. بهذه الطريقة – حسب ما نحسب - سيعود الفقيه إلى نسق الحياة العامة في اندماج حقيقي لآرائه مع المنظومة العلمية المعاصرة، مما سيمكنه من استعادة دوره الحضاري الريادي في زمن أصبح فيه الإنسان في مسيس الحاجة لرحابة الدين ومقاصده وقيمه العليا العظيمة.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس