بن برادلي.. وذكريات لا تنسى

نجم رئيس تحرير «واشنطن بوست» بات في أعالي السماء عقب فترة قصيرة من فضيحة «ووترغيت»

جيف بيزوس مالك «واشنطن بوست» ومؤسس «أمازون» خارج الكاتدرائية الوطنية بعد إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على جثمان بن برادلي (واشنطن بوست)
TT

في ذلك اليوم الذي تجمعت فيه نخبة من واشنطن العاصمة في الكاتدرائية الوطنية ليلقوا نظرة الوداع الأخيرة على جثمان بن برادلي، طرقت ذاكرتي مناسبة أخرى قديمة، وقعت في فترة السبعينات، حينما التقيت لأول مرة بشخصية محرر «واشنطن بوست» الجذابة. كنا نتناول الغداء في أحد مطاعم واشنطن، وسرعان ما بات واضحا أن تناول الغداء مع برادلي لم يكن بالأمر اليسير كما يبدو، فالجميع يريدون التحدث مع المحرر، فلقد ثار نجمه في أعالي السماء عقب فترة قصيرة من فضيحة «ووترغيت». ومن بين أولئك الذين تركوا موائدهم وجاءوا لتحية المحرر كان اثنان من أعضاء مجلس وزراء الرئيس الأميركي جيمي كارتر، واثنان من النواب، وبمزيد من الدهشة والغرابة، كان هناك أيضا السيد ريتشارد هيلمز، المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية، الذي عاد لتوه من العاصمة الإيرانية طهران؛ حيث انتقل إليها – في نفي غير رسمي – تحت مسمى السفير، في زيارة قصيرة للوطن.

كانت كافة الأساليب التي تصرف بها أولئك القوم، المفترض أنهم من أقوى الشخصيات في أميركا، بمثابة درس لضيف السيد برادلي الشاب. فقد تصرف الأميركيون، الذين يُشاهدون وهم واضعون أيديهم في جيوبهم حتى حين المشي مع رئيس بلادهم، بصورة لائقة للغاية مع السيد برادلي حتى أنك لتحسدهم على سمو أخلاقهم ذي النزعة الشرقية التي طالما سخروا منها. كان برادلي رمزا لقوة الصحافة في المحيط الديمقراطي الغربي؛ حيث يحصل من يستطيع إقناع أكبر عدد من الناس على نصيبه من السلطة.

ولذلك، وبرغم وفاته، فإن تلقي برادلي للقدر ذاته من الاهتمام والاحترام ليس من قبيل المفاجأة، فقد كان، بصرف النظر عن كونه المحرر الأسطوري لصحيفة «واشنطن بوست»، رجلا محبوبا بصورة كبيرة، وكان دائما لطيفا ويسلي من حوله مع ما يبدو أنه كنز لا ينتهي من الحكايات والنكات.

كان حضور مراسم إحياء الذكرى في الكاتدرائية الوطنية من قبل الكثير من أعضاء مختلف «القبائل» السياسية في واشنطن بقدر ما تمكنوا من الحصول على دعاوى الحضور، ومن بينهم أعضاء في إدارة الرئيس أوباما، وعلى رأسهم السيد جوزيف بايدن نائب الرئيس، والسيد جون كيري وزير الخارجية. وغني عن القول، كانت هناك كوكبة من نجوم الإعلام كذلك، مع بعض من كبار الشخصيات، وأفضلهم من جميع مناحي الحياة في العاصمة الأميركية.

ومن متابعة الوقائع داخل الكاتدرائية، برغم كل شيء، يفكر أحدنا ما الذي خرج به بن برادلي من كل تلك الترتيبات؟ فلقد حرص المنظمون على أن يكون المشهد الديني للوقائع داخل الكاتدرائية سكونيا قدر المستطاع؛ مما يجعل من خلفية الرجل العظيم الدينية أكثر تهذيبا وبساطة.

في الوقت نفسه، ومن أجل تسليط الضوء على ارتباطه بالولايات المتحدة وبالحلم الأميركي، انطلقت بعض الأغاني الوطنية الكلاسيكية في أرجاء المكان، وكانت النتيجة مشهدا دراميا توافقيا رائعا، وهو من الأشياء التي تجد «قبائل» واشنطن السياسية صعوبة بالغة في تعزيزه في أماكن أخرى وعلى مستويات متباينة.

ومع ذلك، قد يتساءل المرء حول ما إذا كان برادلي نفسه قد أشرف على التوافق المصطنع المثار حول اسمه، وبصفته صحافيا، لم يعمد يوما إلى تزوير ذلك، فلقد كان يتعامل في الواقع، ولا يتتبع الخرافات والأساطير.

ولكن، ماذا عن برادلي الموصوف بأنه «الصحافي المحارب»؟

أتساءل ما إذا كان يقبل بمثل ذلك اللقب، وذلك لأنه، قبل أي شيء، كان إنسانا محبا للسلام، وللتأكيد، كان يحارب من أجل القصة الجيدة، كما يفعل أي صحافي يستحق اللقب، غير أنه لم يستخدم تكتيكات وأساليب الحرب في عمله.

قال نقاد برادلي دوما إنه يحتفظ بأجندة سياسية خفية تهدف لتدمير رئاسة السيد نيكسون. وليس من شك، بصورة عامة، أن برادلي كان متعاطفا مع الحزب الديمقراطي، وتلك حقيقة؛ حيث إنه، إبان فترة تقاعده، أشار في كتاب ألفه إلى علاقاته مع الرئيس جون إف. كنيدي.

ومع ذلك، فالحقيقة هي أن نيكسون نفسه هو من دمر رئاسته بيده.

وكل ما صنعه برادلي كان تغطية ذلك التدمير من أيامه الأولى وحتى الانفجار الكبير في النهاية. وإذا كان سعيه بحق دءوبا وراء قصة فضيحة «ووترغيت»، فذلك لأنها قصة جيدة فحسب، وزادت من مبيعات الصحف كذلك. وبمزيد من الأهمية، من الجائز، ألا ننسى أن صحيفة «واشنطن بوست» كانت في بداية الأمر الصحيفة اليومية في مقاطعة كولومبيا؛ حيث يحتفظ الديمقراطيون دائما على أغلبية الثلثين. وبعبارة أخرى، كان تعاطف برادلي مع الديمقراطيين، على أدنى تقدير وبصفة جزئية، انعكاسا لمشاعر وتعاطف القراء.

وكان برادلي، الذي وافته المنية في وقت سابق من هذا الشهر عن عمر يناهز 93 سنة، واحدا من الذين كسروا القوالب التي صاغتهم، وكان ذلك بصفة جزئية راجعا إلى إدراكه أنه لن يتحول إلى مراسل كبير أو كاتب شهير، ولكن يمكنه أن يكون محررا عظيما، ولقد عقد عزمه على أنه لا يريد أن يصير نجما بل صانعا للنجوم؛ مما انتهى به الأمر كنجم النجوم في نهاية المطاف. أيضا، تزامن تاريخه المهني مع ما يمكن وصفه بأنه العصر الذهبي للصحافة الأميركية حينما كانت الآلة الصحافية ضيقة الأفق لا تعكس إلا تفوق الولايات المتحدة بوصفها زعيمة للعالم، أدى إلى نشوء طموحات عالمية.