الشيوعية سابقا.. تدير دبلوماسية الاتحاد الأوروبي

فيديريكا موغيريني وزيرة الخارجية الإيطالية السابقة «خليفة كاثرين أشتون»

TT

دخلت في آخر أيام أكتوبر (تشرين الأول) الفائت سيدة شابة إلى وزارة الخارجية الإيطالية في بناية فارنيزينا بروما وهي ترتدي سروال الجينز الأزرق وحين تفحص حراس الوزارة وجهها لاحظوا أنها وزيرة الخارجية فيديريكا موغيريني التي تسلمت الوزارة في فبراير (شباط) الماضي، وقد جاءت لتسليم وزير الخارجية الجديد باولو جنتيلوني مفاتيح مكتبها لأنها ستبدأ عملها الجديد في بروكسل في أول نوفمبر (تشرين الثاني) كمسؤولة عن الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي.

رئيس الوزراء اليساري الشاب ماتيو رينزي غارق في المشاكل الاقتصادية الداخلية المستمرة منذ 4 سنوات ويواجه الإضرابات العمالية وتحدي النقابات فلماذا قرر تبديل وزيرته الغرة المولودة عام 1973؟.. لقد مارس ضغوطا كبيرة على الاتحاد الأوروبي لقبول مرشحته موغيريني رغم اعتراض دول البلطيق وبولندا عليها باعتبارها متعاطفة مع روسيا بل اتهمتها رئيسة ليتوانيا بأنها «تحابي الكرملين» مستشهدة بماضي موغيريني التي انضمت إلى الشبيبة الشيوعية التابعة للحزب الشيوعي الإيطالي حين كانت يافعة ثم انضمت إلى الحزب الديمقراطي الحاكم حاليا والذي اندمج فيه الشيوعيون المعتدلون بعد انهيار جدار برلين في أواخر الثمانينات.

رينزي كان يريد منصبا رفيعا لإيطاليا في الاتحاد الأوروبي بعد تسلم جان كلود يونكر (رئيس وزراء لوكسمبورغ السابق) رئاسة المفوضية الأوروبية وهدفه توثيق العلاقات بين الطرفين والحد من الانتقادات الأوروبية للميزانيات والعجز المالي في إيطاليا وكذلك لإرضاء رئيس الجمهورية الإيطالية المسن جورجيو نابوليتانو الذي صرح منذ أشهر أنه يرى في القيادات الحالية «ضعفا في التاريخ والثقافة الدولية، فحين تبرز الأزمات الخطيرة في العالم نكتشف أنهم لا يملكون الوعي الكافي للتاريخ ولما جرى قبل اليوم». فهم رينزي هذا التلميح بأن من يتسلم بناية فارنيزينا ومقر وزارة الخارجية عليه أن يكون مستعدا لهذا المنصب وذا خبرة واسعة ونضوج سياسي. لم يكن هذا رأي الرئيس نابوليتانو لوحده بل إن سفير إيطاليا السابق في سوريا والهند روبرتو توسكانو يقول: «ما نطلبه لهذا المنصب ليس امرأة أو شابا أو خبيرا فنيا في الشؤون العالمية بل من يتمكن من رؤية شاملة لملفات الأزمات الدولية والحنكة في معالجتها والخبرة العميقة في التفاوض وربط العلاقات الشخصية».

بقيت موغيريني ما يزيد على 8 أشهر في المنصب الذي تسلمته من سلفتها العجوز الناجحة إيما بونينو وتنافست 3 سيدات على خلافتها من داخل وخارج وزارة الخارجية وأشيع أيضا أن الرئيس السابق لشركة فيراري للسيارات لوقا مونتي زيمولو كان يطمح لتبوء منصبها. والآن خلفت الإنجليزية كاثرين آشتون في مفوضية الاتحاد الأوروبي إثر مفاوضات مرفقة بمساومات بارعة وتنازلات متبادلة كما يفعلون في سباق الخيول فهي تمثل التيار اليساري الوسطي بينما حصل رئيس الوزراء البولندي السابق دونالد توسك على منصب رئيس المجلس الأوروبي كممثل للتيار اليميني الوسطي. ويبدو الاتحاد الأوروبي أكثر انفتاحا على إعطاء دور هام للمرأة في مؤسساته كي لا تتحول إلى «ناد للرجال فقط».

تفيد السيرة الذاتية لفيديريكا موغيريني أنها متزوجة ولديها طفلتان وقد درست العلوم السياسية في جامعة روما (سابينزا) وتتقن الإنجليزية والفرنسية على عكس كثير من وزراء الخارجية السابقين الذين يتقنون الإيطالية فقط، وعمل والدها في تصميم المناظر في السينما ثم أصبح مخرجا في السينما الإيطالية. انتخبت عضوة في مجلس النواب عام 2008 وأعيد انتخابها عام 2013 حيث عملت أمينة سر لجنة الدفاع في البرلمان، وهي عضوة في معهد الشؤون الدولية بروما وعضوة في مجلس العلاقات بين إيطاليا والولايات المتحدة وعضوة في المجلس الأوروبي لنزع السلاح النووي وعضوة في التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين. عملت منذ أواخر 2013 كحزبية في قيادة الحزب الديمقراطي تهتم بالشؤون الأوروبية والدولية وخاصة العلاقات مع الحزب الديمقراطي في أميركا، وعملت سابقا في تسعينات القرن الماضي في منتدى شبيبة منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) ونشطت في محاربة العنصرية وكان شعارها: الكل مختلفون والكل متساوون. آخر ما ذكرته في حسابها على فيسبوك قبل أيام «أعتبر الانتخابات في الجمهورية الشعبية في دونيتسك بشرق أوكرانيا عائقا جديدا على طريق التسوية السلمية لأنها انتخابات غير قانونية».

استقالت موغيريني من وزارة الخارجية كما استقالت من عضويتها في مجلس النواب وذكرت رئيسة مجلس النواب الشابة لورا بولديريني التي بدأت حياتها العملية في منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة أنها تعرف الوزيرة منذ تلك الأيام وتعرف مزاياها وقدرتها وأنها واثقة أن وجودها في بروكسل سيدعم الصلة بين إيطاليا والاتحاد الأوروبي، ثم قرأت في جلسة مجلس النواب خطاب استقالة موغيريني التي تقول «لم يكن من السهل علي ترك منصبي في الظروف المتوترة الدولية حاليا، وحين أقود السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد خلال السنوات الـ5 القادمة أنوي إجراء تغييرات هامة مثلما نفعل الآن في إيطاليا فهذا التحدي أعتبره جذابا بالنسبة لي. لن أقول لكم وداعا ولكن إلى اللقاء».

أنجب فلافيو موغيريني المخرج السينمائي الإيطالي نجمة صاعدة في سماء إيطاليا لكنها من عالم السياسة لا من عالم الفن، وترك هذا العالم وعمر ابنته لا يتجاوز العشر سنوات. ابنته فيديريكا موغيريني انتقلت من وزيرة للخارجية الإيطالية إلى مسؤولة عن الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي وعمرها 41 سنة في بلد اشتهر بساسته المسنين الذين لا يختفون مطلقا حتى يوافيهم الأجل. إنها مثال للنسيم الجديد الذي يعتري القارة الأوروبية ومصدره إيطاليا. الجيل الجديد المنفتح على العالم وعلى الإنترنت والذي يوحد الشباب في أوروبا أكثر من عملة اليورو التي تعترضها العواصف من حين لآخر.

فازت بالمنصب الهام في بروكسل رغم المصاعب التي سببتها لها الأزمة الأوكرانية، إذ اعترضت عليها بعض دول أوروبا الشرقية لأنها لم تكن قوية وكاسحة في مجابهة روسيا التي تزود إيطاليا بالغاز والسياح الذين عوضوا عن تقلص عدد السياح الأميركان. بالإضافة إلى دعم رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي ممثل جيل الشباب، ساند ترشيحها للاتحاد الأوروبي الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند ليس لأنها ديمقراطية اشتراكية مثله، بل لأنها مليئة بحيوية الشباب ولديها الخبرة الكافية واتخاذ القرار الصائب بالإضافة إلى دراستها الجامعية الإضافية في إكس دو بروفانس في فرنسا ضمن منحة دراسية أوروبية من برنامج إيراسموس المسمى على اسم الفيلسوف الهولندي القديم.

حين تمت تسميتها منذ نحو تسعة أشهر لمنصب وزيرة الخارجية كانت أصغر وزيرة في إيطاليا مثلما كان رينزي أصغر رئيس للوزراء، لذلك قوبل الأمر بالدهشة والتعجب، لكن علاقتها برئيس الوزراء لم تكن جيدة على الدوام فقد صرحت عام 2012 أن رينزي (وكان عمدة مدينة فلورنسا آنذاك) تنقصه الخبرة في الشؤون الخارجية ولو جرى اختباره لسقط في الامتحان. خبرتها العملية في السياسة الخارجية كانت محدودة وتقتصر على حضور المؤتمرات والسفر والاستماع إلى مداخلات الآخرين لكنها كانت تعوض عن ذلك بثقتها في النفس والعمل الدائم لمزيد من المعرفة والتقدم.

لا ندري إذا كان عملها الجديد في عاصمة بلجيكا سيترك لها الوقت الكافي لممارسة هوايتها في قراءة القصص البوليسية، فإن المشكلات العالمية التي ينبغي حلها على المستوى الأوروبي والدولي تفوق خيال مؤلفي القصص وتشغل المتابع لها طوال الوقت وآناء النهار والليل.

ما المطلوب ممن يحصل على منصب وزير الخارجية في أي بلد؟ أن يكون دبلوماسيا بارعا وقادرا على وضع وإدارة السياسة الخارجية لبلده، وكانوا يقولون مازحين إن على وزير المالية أن يكون عبوسا مقطب الوجه حتى لا يدفع النفقات أما الدبلوماسي فعليه أن يعرف عن ماذا يتكلم لكنه لا يتكلم عن الأمور التي يعرفها، وأن يعتذر باستمرار لأن الآخرين لم يفهموا ما كان يقوله في كلامه. هل كانت لدى موغيريني هذه المؤهلات؟ كل من يعرفها يؤكد أنها تمتاز بالذكاء والمثابرة والجدية والفهم السريع والفكر المنفتح والأسلوب الحديث في الدبلوماسية أي المصارحة وكسب الثقة وليس الغموض في التعبير وحضور الحفلات بالأزياء الأنيقة الفاخرة.

يذكر عنها مايكل نونيس من معهد الشؤون الدولية في روما «إنها تدرس ملفاتها بعناية وتعمل بحماس وحيوية وتختار أفضل المستشارين». كانت تضع صورتها مع الراحل ياسر عرفات في حسابها على الإنترنت حتى عام 2002 وقامت بدراسة مفصلة عن الإسلام، والحقيقة أنها تفكر بعقلية ومصلحة بلدها وحسها السياسي المرهف فهي حيادية وربما غير متعاطفة مع إسرائيل لكنها تدرك أن مصلحة إيطاليا وأوروبا عموما تكمن في حل القضية الفلسطينية وفي الاهتمام بدول البحر الأبيض المتوسط وبالتحالف مع الولايات المتحدة ضمن إطار حلف الأطلسي (الناتو) وفي التعامل مع روسيا تجاريا وسياحيا وهكذا الحال منذ أيام رئيس الوزراء الأسبق سلفيو برلسكوني وعلاقته الشخصية القوية مع الرئيس بوتين، وتعمل السياسة الخارجية الإيطالية الحالية على حث روسيا على إنهاء المشكل مع أوكرانيا بشكل سلمي فقد جمعت قبل أسابيع في ميلانو بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأوكراني، أما مواقفها السياسية الإجمالية فلا تختلف كثيرا عن مواقف ألمانيا أو فرنسا.

خلف موغيريني في وزارة الخارجية الإيطالية جنتيلوني فهو يفوقها سنا وخبرة (مواليد 1954) واسمه يعني بالإيطالية: فائق اللطف ويتصف باللباقة والدماثة وعمله كوزير للاتصالات في حكومة رومانو برودي السابقة سيساعده في تحقيق نفس الأهداف للسياسة الخارجية الإيطالية، أما طموحات موغيريني لوضع سياسة خارجية أوروبية موحدة فستعترضها عقبات ليست بالحديثة، وسيكون دورها على الأغلب تنفيذ السياسة الخارجية لدول الاتحاد لا وضعها أو صياغتها.

سالت سائق التاكسي الذي أوصلني إلى مقر وزارة الخارجية: ما رأيك بفيديريكا موغيريني؟ فكر قليلا ثم أجاب: أتقصد بطلة السباحة الإيطالية التي فازت في الألعاب الأولمبية؟ (كان يقصد: فيديريكا بيليغريني). سألته مجددا: هل سمعت باسم باولو جنتيلوني؟ أجاب: نعم.. إنه صاحب أحسن بسكويت تصنعه إيطاليا! (يقصد باولو جنتيليني).