رحلة البحث الكبيرة عن اللحمة العائلية الضائعة في فيلم الافتتاح

«الجرح» بحجم الأزمنة والأمكنة الكثيرة التي تدور أحداثه فيها

لقطة من فيلم الافتتاح «الجرح»
TT

لا يمكن تصور القاهرة من دون مهرجان كبير يقام في وسطها محاطا بفناني السينما وغيرتهم عليها وحبهم لها. يمكن تصور أي مدينة أخرى في مصر بلا مهرجان، لكن القاهرة دائما كانت نبض الفن العربي صوتا وصورة. وإذ ينطلق مهرجان القاهرة 36 مساء اليوم (الأحد) فإن هذا الدور يعود تحت مظلة جديدة قوامها الرغبة في تحرير المهرجان من كبوات الأمس وعراقيل المساعي والمصالح الشخصية التي كبلته طويلا.

36 سنة غير متوالية (إذ اضطر للتغيب عامين متباعدين منذ إطلاقه سنة 1976) لم تكن كلها ناجحة، لكنها كانت، في غضون السبعينات والثمانينات متطورة، قبل أن يدخل المهرجان سياق الاستمرار وحده ويبدأ برفع لافتات التأكيد على أسبقيته وفرديته وحقيقة أنه منضم إلى فدرالية المهرجانات الدولية التي ترعى (كما ترقب أعماله). المحاولة كانت نوعا من تهنئة الذات في حين أن التحديات كانت تتطلب المزيد من العمل لتحقيق الأهداف المناطة.

اليوم هناك مرحلة جديدة وتحت رئاسة جديدة.

الناقد سمير فريد هو الرئيس السادس لهذا المهرجان، بعد كمال الملاخ وسعد الدين وهبة وحسين فهمي وشريف الشوباشي وعزت أبو عوف، علما أن الكاتب المسرحي والسينمائي الراحل وهبة هو الذي استمر في منصبه أكثر من سواه. تحت إدارته، عرف المهرجان أفضل إدارة داخلية علما بأن ذلك لم يتم من دون مكابدة فوضى هددت سمعة المهرجان أكثر من مرة.

لكنها الفترة التي استقبل فيها المهرجان أهم السينمائيين كضيوف ومنهم الراحلون سيرجيو ليوني وإيليا كازان ومصطفى العقاد ومايكل أنجلو أنطونيوني وبيتر أوتول وروبرت وايز وإسماعيل مارشنت وإليزابث تايلور، قبل أن يدلف، في أعوام ما بعد سعد الدين وهبة، إلى خليط يضم المزيد من الصف الكلاسيكي الأول أحيانا (كارلوس ساورا، جينا لولو بريجيدا، صوفيا لورين إلخ…) ونجوم من صفوف متراوحة بين الأولى والثالثة في أحيان أكثر (ميرا سورفينو، جوليا أرموند، كيرت راسل، برسيلا برسلي، بد سبنر وسواهم).

تلك الفترة القلقة التي تخبط فيه المهرجان بين الرغبات الصادقة وتلك التي تفرزها المصالح وتضم الكثير من عدم المعرفة، كادت تنتهي عندما صدر قرار بإسناد رئاسته إلى الزميل أمير العمري الذي بادر للعمل بجد لبضعة أشهر من قبل صدور قرار بتنحيته. بعدم منح الزميل فترة للحكم له أو عليه، بقي المهرجان بلا قرار حتى تم تعيين الزميل سمير فريد رئيسا له.

تحت أي من الإدارتين، كان المهرجان سيشكل البداية الجديدة الموعودة له. النجاح هو أمر آخر يكمن عند المحطة الأخيرة لدورته الجديدة، تلك التي ستتوج بحفلة ختام وتوزيع الجوائز في 18 الشهر الحالي.

* البحث الطويل

* فيلم الافتتاح هو «الجرح (The Cut)» وترجمه المهرجان «القطع» الذي اختاره سمير فريد منذ أن شاهده في عرضه العالمي الأول في مهرجان فينسيا. تحمس له لأكثر من سبب. أهم هذه الأسباب جودته كفيلم، ثم مناسبته كفيلم افتتاح، فهو فيلم رحلة بحجم الأزمنة والأمكنة الكثيرة التي تدور أحداثه فيها، وفيلم قضية، أو قضايا، وهذه عادة ما تستهوي المهرجانات عموما، كما هو فيلم من إخراج الألماني - التركي الأصل فاتح أكين.

لكن جودة الفيلم نسبية تختلف من ناقد لآخر. حماس رئيس مهرجان القاهرة مبرر. الجمهور، في غالبه، سيوافق الرئيس على أنه اختيار موفق للأسباب أعلاه، ولو أن الفيلم في حقيقته لا يخلو من شوائب توازي، عددا وأهمية، حسناته.

The Cut قد تعني الكثير، لكنها هنا «الجرح» نسبة للمعاناة النفسية والعاطفية الكبيرة التي يكشف عنها في ذات بطله الذي عليه أن يجتاز المسافات الطويلة، من آسيا إلى أميركا اللاتينية ومنها إلى أميركا الشمالية، بحثا عن ابنتيه لعله يجدهما فهما الوحيدتان الباقيتان على قيد الحياة، أو هكذا يعتقد إذ ستكشف النهاية عن نتيجة مختلفة بعض الشيء. جرحه بذلك غائر وكبير ومتعدد الأسباب والظروف.

تبدأ الحكاية في عام 1915: الشاب الأرمني نزارت مانوجيان (يؤديه الممثل الجزائري الأصل طاهر رحيم) يعيش في قرية تركية مع عائلته الأرمينية. تحاول أن تبتعد عن المشكلات المحيطة بها إذ تهيمن السلطة العثمانية على مقدرات الناس وتفرقهم حسب أعراقهم ودياناتهم. وما هي إلا فترة قليلة قبل أن يفرض على نزارت الانضمام إلى الرجال الذين سيتم دفعهم للعمل في الأشغال الشاقة في مناطق غير مأهولة. بعد حين سيصدر القرار بإعدامهم لكن جنديا تركيا ينقذه قبل أن يتركه مع مجموعة من المتمردين لفترة إذ إن همه كان العودة إلى قريته والبحث عن أسرته.

هذا هو البحث الطويل الذي سيأخذه من موقع لآخر. سيعود إلى موطنه. سيتقمص شخصية مسلم. سيتقصى وسيعرف أن عائلته تشتت وأن ابنتيه هما الناجيتان الوحيدتان. ليس لديه وقت طويل يضيعه وها هو ينطلق إلى حلب ومنها إلى بيروت وأثينا ودائما متأخر عن اللحاق بابنتيه. سيأتيه خبر بأنهما أصبحا في كوبا وسيجد طريقة لركوب السفينة التي سيعمل عليها لتأمين وصوله إلى هافانا. هناك سوف يواصل البحث لكنه سيكتشف أنهما اضطرا لترك كوبا إلى الولايات المتحدة.

* إنتاج وتصوير

* فيلم فاتح أكين هو واحد من تلك الأفلام التي تريد ممارسة أكثر من شأن ووظيفة. هو فيلم رحلة «طريق وبحر» وفيلم بحث وفيلم عن لحمة عائلية على ذلك الرجل أن يعيدها أو ما تبقى منها. في الوقت ذاته، هو فيلم عن جور العثمانيين ومسألة الضحايا الأرمن. وفوق ذلك كله، تذكير بذلك الشرق الذي لم يتوقف عقدا كاملا عن المتاعب ولا يزال محط الحروب والخلافات والانقسامات.

بما أن المحيط الحكائي شاسع، يمتد لبضع سنوات ويشمل عدة دول وبلدات، فإن الفيلم (138 دقيقة) ليس لديه الوقت الكافي لطرح كل هذه المسائل والشواغل على نحو رصين وحدثي. ينتقل من نقطة ساخنة إلى نقطة أخرى معتمدا على الأحداث ذاتها التي عليها أن تلعب دورها الأصلي وهو سرد الحكاية. لذلك هناك الكثير من هذه الشؤون التي تمر سريعا أو تصاحب الأحداث مثل ظل لها وعلى المشاهد أن يفصلها لكي يتعامل معها إذا ما استطاع.

للسبب ذاته، فإن الأوديسا التي يوفرها عبر هذا الموضوع الشاسع ليست متوازنة، لا كمراحل زمنية ولا كأماكن أحداث. يبدأ بتفاصيل معيشية وبيئية كثيرة ويمضي وقتا لا بد منه متابعا ما يحدث لبطله حين اقتيد للأعمال الشاقة ثم حين نفذ من الموت، وعليه بعد ذلك التقاط المحطات التالية سريعا. هذا، من ناحية أخرى، يحول دون التعمق بما هو معروض ويجعل ممثله غير قادر على التمتع بما يكفي من مشاهد يعكس فيها ما يجب أن يعكسه من مشاعر حيال ما يحدث معه.

تم تصوير الفيلم في بقاع كثيرة منها الأردن ومالطا وكوبا ومدينة ألبرتا الكندية كما في أستديوهين ألمانيين «MMC» في كولوني وبابلبيرغ في بوتسدام والتمويل شمل شركات ومساهمات ألمانية وفرنسية وبولندية وروسية وكندية وإيطالية وتركيا. وفي مصر كتب البعض مهاجما المهرجان على أساس أنه يوفر فيلما تركيا للافتتاح في حين أن «الجرح» هو معاد للعرقية التركية وهويتها الاحتلالية في تلك الفترة على الأقل.

وهو بذلك يشترك وفيلم «ذئب» لنجاح أبو نوار، في التعاطي وتلك الفترة العثماني ولو أن الفيلم الأردني يتناوله على نحو أصغر حجما وأقل عرضة للتشتت.