عبد الوهاب المؤدب.. شيع أوهام «الإسلام السياسي» ثم رحل

ولعه بابن عربي وعداؤه للأصولية وخصومته مع طارق رمضان أبعدته مشرقيا

TT

غادرنا سي عبد الوهاب المؤدب الفيلسوف التونسي البارز في أوساط المثقفين الباريسيين سفيرا للعرفان المشرقي، الذي نقله إلى الفرنسية، وبسطه عبر حلقات في الراديو «ثقافات الإسلام»، مسلطا الضوء على التيارات الروحية في تاريخ الإسلام، إضافة إلى روائع الأدب العربي، من نجيب محفوظ إلى الطيب صالح وآخرين.

استسلم المؤدب بعد صراع طويل مع مرض عضال، لكن للحظة الأخيرة لم يستسلم في أي من معاركه الفكرية التي خاضها ضد الجميع، وتحديدا أنصار الإسلام السياسي في أوروبا، من طارق رمضان إلى آخرين رأى فيهم عبد الوهاب إعادة لتأسيس الأصولية في الغرب، بدلا من الاستفادة من النهضة الأوروبية، وتجاوز عقبات وأوهام الإسلام السياسي أوهام التفرد والخصوصية.

وبإزاء 30 مؤلفا، أشهرها «أوهام الإسلام السياسي» إلى آخرها «غريزة صوفية» والعديد من المؤلفات عن التصوف الفلسفي، ربما كان أشهر عمل للراحل هو برنامج «ثقافات الإسلام» في «إذاعة فرنسا الثقافية»، الذي يعنى بتحليل ودراسة التقاطعات الحضارية ما بين الثقافتين الإسلامية والغربية.

«مرض الإسلام» كتابه الأشهر، الذي أكسبه عداوة عريضة في أوساط الجالية الإسلامية الأوروبية، لا سيما أنها ظلت تعتبر ككتلة واحدة مضادة للاندماج ومستنفرة هويّات عديدة، آخرها الإسلام السياسي الذي اجتاح أوروبا وفرنسا وكان محل نقد المؤدب، الذي نقد ما سماه «الذهنية الإسلامية المعاصرة» التي هي من وجهة نظره نتائج تاريخ طويل من الاستبداد والانحطاط الثقافي.

في كتابه «ضد الخطب» الذي يعبر عن خطب تنويرية ضد طهرانية الإسلام السياسي التي يرى أنها لم تستفد من تراث الإسلام الثري والمتسامح، ولا يتوانى المؤدب في كل مناسبة بالإشادة بالعلمانية، كخلاص للمجتمعات العربية، حتى إنه ارتأى أن دواء تحييد العامل الديني هو دواء أتاتورك الذي حقق تقدما لتركيا الحديثة.

أبرز ملمح في شخصية عبد الوهاب المؤدب الثقافية بغضه للتيارات التلفيقية كما يسميها، التي تحاول تقديم حلول وسط بين اكتساح الحضارة الغربية والحنين إلى صورة متوهمة للإسلام الأول، وفي هذا السياق عرف عنه عداء طويل وسجال مع طارق رمضان الذي يرى فيه مصطنعا لا يعبر إلا عن محاولات متكلفة لتشذيب الإسلام، ويؤكد في كل مرة: «ليس بيني وبينه أي نقطة التقاء» بعد حوارات كثيرة شملت قضايا الحدود والعقوبات الجسدية في الإسلام، التي يرى المؤدب أنها خاضعة للسياق التاريخي لا أكثر.

عن عمر لم يتجاوز 68 عاما حقق المؤدب الكثير من الحضور على مستوى الأدب الفرنسي وترجمته والتدريس في أعرق جامعات أوروبا حاملا معه «ابن عربي» و«الحلاج» شارحا ومفسرا، ومنذ عام 1997 وهو يقدم حلقات إذاعية «ثقافات الإسلام»، بجانب إدارته للتحرير لعدد من المجلات البحثية المتخصصة في التصوف والروحانية.

يُعد عبد الوهاب المؤدب واحدا من أهم المفكرين العرب المعاصرين. أثار كتابه «أوهام الإسلام السياسي» نقاشات حامية في العالم الإسلامي، وكذلك أيضا في أوروبا.

في حواري مع بيات شتاوفر يتحدث المؤدب عن كتابه الصادر أخيرا باللغة الفرنسية. كتابه «أوهام الإسلام السياسي» أو «مرض الإسلام» بالفرنسية تُرجم إلى 20 لغة، معتبرا أنه قام بدور يشبه ما فعله نيتشه في نقد المسيحية في عصره، ويبرر ذلك، في لقائي معه عام 2010، بباريس، بأن «أصوات النقد في تاريخ الإسلام أكثر حدة وراديكالية من الآن، نعم، أنا أعتبر الأصولية مرضا خطيرا لأنها سممت مفاهيم الإسلام الحضارية حيث كان يتطور الخطاب الديني بشكل مشوق إلى أن جاءت ظروف ولد معها الإسلام السياسي ليعبر عن لحظة مرض وضعف».

هذا النفور الحانق على الخطاب المعاصر للإسلاميين قابله هجوم كاسح من قبل مجموعات إسلاموية في أوروبا، يتقدمهم طارق رمضان حفيد البنا، الذي يرى المؤدب فيه وفي خطاب الإخوان الجديد تهديدا لقيم أوروبا التي سمحت باحتضان هؤلاء المتطرفين بناء على قيمها في الحرية والمساواة والتعددية، وهو ما قابله الإسلاميون بالتذاكي الشديد، عبر رفع استراتيجية تفادي النظم والقوانين الأوروبية وإقحام مسألة الشريعة.

الاستقامة الدينية من وجهة نظر هذا الفيلسوف المأخوذ بتجربة ابن عربي وبنقلها إلى أوروبا هي البحث عن الحقيقة، والحقيقة تقول إن حضارة الإسلام لم تحدث قطيعة مع العالم كما يفعل الإسلاميون اليوم، بل بُنيت وعلا شأنها بسبب إسهامات خارجية لحضارات فارسية وإغريقية وهندية.

الربيع العربي، الأكذوبة التي لطالما تتبعها (حسب قوله) منذ لحظات الثورة الأولى، ففي البدء يؤكد المؤدب أن الثورات لم تكن صنيعة الإسلاميين، كما أنهم بعد أن دخلوها لم يجلبوا معهم تراثهم الفكري لإصلاح الأمة وإنما لخطف كرسي السلطة فحسب، ومع ذلك فإن إسلاميي اليوم في نظر عبد الوهاب المؤدب لا علاقة لهم بالتقاليد العريقة لإسلام القرون الوسطي الأكثر انفتاحا على الحضارات والتعددية من أي نسخة معاصرة.

مشكلة الإسلاميين من وجهة نظره التي طرحها مبكرا فيما يشبه النبوءة، أنهم حوّلوا التقاليد إلى آيديولوجيات، وبالتالي هذه الرؤية الشمولية تتحول ببساطة إلى تشريع استبدادي، وهي، كما يراها، ضريبة متوقعة لممارسة السياسة خارج الحقل السياسي.

المؤدب في هجومه الكاسح على شمولية الأصولية المعاصرة يرى أن الأفكار التعميمية سبب هذا الجهل الذي تعيشه المنطقة، فهو يرى ضرورة أن يسعى كل مجتمع إلى تطوير نموذجه التنويري الخاص مستخدما السياق التاريخي للتنوير، الذي تم تغييبه مع ولادة الصحوة الدينية المعاصرة، والتي لا يرى في وصولها أي تطور على مستوى الأفكار، مستدلا بالانزعاج الكبير لدى إسلاميي تونس ومصر من كلمة عابرة في مديح العلمانية قالها إردوغان، وهو ما يؤكد عدم استعداد الإسلاميين لثقافة وقيم وأخلاق الديمقراطية، وإن كانوا متطلعين جدا إلى خطف السلطة متى حانت الفرصة.

«سي المدّب» كما يُنطق بالدارجة التونسية، لم يهبط إلى الساحة النقدية للأديان من الخارج، بل هو سليل عائلة متدينة محافظة، تردد على جامع الزيتونة قبل أن يولع بالأدب الفرنسي الذي جعله شخصية فريدة في التنقل السلس بين الثقافتين، وبشكل مدهش على مستوى الاستدلال والتذوق للمفردة اللغوية الصوفية بالدرجة نفسها للأدب الفرانكفوني الذي أفاد منه، وكتب عددا من الأعمال الروائية، أبرزها روايته «فانتازيا» و«محطات يال الـ99».

الأكيد أن الخلاف والاختلاف مع المؤدب لم يعطه حقه من القراءة والدرس، لا سيما أن لديه الكثير من الأفكار الجديدة لما يسميه «التجاور والتحاور الثقافي»، لكنه ذهب ضحية الخصومات الصغيرة مع الإسلام السياسي التي غيّبت جزءا هائلا من ثروته المعرفية في مجال الأديان المقارنة والأدب والروحانيات.

بصوته الخفيض الهادئ أجابني وأنا أسأله في نهاية المطاف عن المقبل: «على العالم العربي والإسلام فعل أي شيء لتجنب ديكتاتوريات دينية شمولية قد تجعلنا نندم على الحكومات العلمانية المطاح بها».