رفيف الظل: كلُّ أبيضنا صارَ دُخانًا

TT

القصيدةُ المدلاةُ في عنق كاتبها والقلمُ الغائرُ في جرح الكتمان، هما أول الهتك. وبعدها، والداكَ يجهلان انكفاءَ وجهِك، وأوطانكَ تصيرُ حرةً إنْ سجنتكَ في دفتر، والشعراءُ سلالةُ المقصلة.

لا تستخفّ بمقصلة القافية،

كم شاعرٍ ساحَ دمُه في سبيل ظلٍّ لا ينعكسُ على صدى صوته. وكم ناثرٍ أعلن أنَّ المقصلة وَرْدُهُ وَوِرْدُهُ، لكنَّ ابتهاجَه لم يدمْ سوى دهر، وأصابع نقشه قُطعتْ في ساعة المصافحة، وارتبك الماءُ أمام العطشان. وساعتها، حانتِ الكلمةُ، فانزاحَ من الميادين سماسرة الربا الأول، وبعدهم تجارُ النار.

وقبل أن يستعرضَ الليلُ حلكتَهُ على الفقراء، رأى الشعراءُ نجمةَ العجب، وطاردوا بخيالهم المعصوف مذنباتها، وكان ذلك وصفًا لميلاد البوح من النوح، وهو اشتقاق الشبيه من ذاتِ ضدّه وخلطهما في الإشارة ومزجهما داخلَ الرمزِ قبل أن يصبحَ قافيةً رخوة.

وبأمّ عينه وعقله، سوف يصرخُ الحرفُ، سوف يزأرُ لعله يثأرُ من ندم الرتابة في قواميس الحجر، وعلى مهلٍ سوف ينساه المكممون، وتهجره المرأةُ المرجومة باحتمال العار، ولن يجد الحرفُ خلاصَهُ في نباح المنابر المكتظّة بأفّاقين من كلِّ الآفاق، ولن تتسربَ الكلمةُ من وزنها الثقيل، إلاّ على لسان شاعرٍ يهجو أصنامَ معانيها.

فُكّها،

فكْ الدلالةَ ولا تستبدلِ الأخضرَ بأخضر،

الماء أزرقُ في نهارٍ عادي، لكنَّه وردي في ساعةِ العشق، وموجتُهُ سكينٌ وقتَ اندلاع العاصفة.

هل يبقى الكلامُ في مكانه، أم يجرفه الزمانُ كلَّما وطأتِ الخيلُ على الجسدِ المهزوم، على اللسانِ اليابس في لحظة المناداة؟

هل يسمعونه؟

لا بدَّ أن يسمعوه، سيكون كخريطةٍ تتعرَّى في غابةِ البوصلة، وتهبطُ لاسمِ الماء، وفعل البحيرة، شمالَ الخوفِ، جنوبَ الجرأة.

الماءُ مطلوبٌ لجريمةٍ لم يقترفها،

مطلوبٌ بكل الأسماء التي اخترناها لهُ.

ليس أن يسمعوا، لكن أن تكونَ الجرأةُ من صفاتهم، فهو تحتَ الخيل، والماء ليس في مكانه.

كلُّ حروف الأبجدية ينبغي أن تخرجَ عن تخوم القواميس، لئلا يقال إن صمتًا ساهمَ في القتل وهو واقفٌ على خط المشهد.

الشخصُ كنايةٌ عن شعبٍ برمّته.

من يسكتُ عن قتل شخصٍ يقتلُ الشعوبَ قاطبة؟ أية دلالةٍ تقبل البدائل والألوان مقصوفة كلها؟

اللون الذي أسرفنا في قصفه، هو الأبيض. فهو حينَ تجرحُهُ، يناديكَ باسمك، يفضحك.

لا مستقبلَ لنا، كلُّ أبيضنا صار دُخانًا،

الراياتُ السوداءُ تملأ الأفق،

لا مستقبلَ لنا. المستقبلُ كرةُ نارٍ تلفظُها السماءُ، ونتقاذفُها نحنُ في حدائقِ العطلةِ الأسبوعيّة.

المستقبل يكزُّ أسنانه، قبل أن نعودَ إلى منازلنا، فرحينَ بغدِ الوظيفة. حتى لو كانت أصابعنا محناةً بدم، لن ينتبه أحد. لكننا إن همسنا باسم الوضوح، نكُن فتنة، وقد يمنعونَ عنا السلالم.

هذا ما يخدشُ البال، هذا ما يعطلُ الكمالَ قبل نقصانهِ من جديد.