رواية إشكالية تستنطق روح العصر

«موعظة عن سقوط روما» التي حازت «غونكور 2012».. إلى العربية

غلاف «موعظة عن سقوط روما»
TT

تحتاج الأعمال الروائية المعقدة إلى عين نقدية ثاقبة تقرأ ما بين السطور، وتستجلي المعاني المجازية التي لا تمنح نفسها دفعة واحدة حتى للقارئ الحصيف الذي يحترف القراءة يوميا، ويكرس نفسه لها. ورواية «موعظة عن سقوط روما» للكاتب الفرنسي جيروم فيراري الحائزة على جائزة «غونكور» لعام 2012 والتي ترجمها إلى العربية الروائي شاكر نوري هي واحدة من هذه الروايات الإشكالية التي تستنطق روح العصر، وتلج في غابة أسئلته الشائكة والمحيرة، وتقدم في كثير من الأحيان إجابات شافية على الرغم من أن مهمة الرواية أو أي جنس أدبي آخر هي إثارة الأسئلة التي تؤرق القارئ، لا تقديم الإجابات الجاهزة التي تحد من مشاركة المتلقي في التفاعل مع الأحداث أو صناعتها في بعض الأحيان.

ولكي يلم القارئ بتطور أحداث الرواية، ونمو شخصياتها، وبلوغ النهاية المرتقبة أو غير المتوقعة أحيانا لا بد له أن يلتقط الثيمة المهيمنة على النص برمته، وأن يعرف مستويات السرد التي تحدد المسارات الرئيسة والثانوية للشخصيات الأساسية والمؤازرة، كما يتوجب على القارئ أن يفك طلاسم النص التي قد تصادفه هنا أو هناك. فأسلوب هذه الرواية تحديدا أو حتى رواياته الست الأخرى من بينها «أنواع الموت»، و«أين تركت روحي؟» تعول كثيرا على المنحى الرمزي الذي يحتاج إلى قارئ متمكن يتنقل بسلاسة ويسر بين اللغة الحقيقية «المسطحة» واللغة المجازية «العميقة» التي يراهن عليها كاتب من طراز جيروم فيراري الذي درس الفلسفة وتضلع فيها.

* شرارة الثيمة

* لا يجد فيراري ضيرا في القول بأن رواية «موعظة عن سقوط روما» تتكئ على مقولة للقديس أوغسطين مفادها أن «العالم كالإنسان: يولد، ويكبر، ثم يموت»، مذكرا إيانا بأن لكل شيء دورته على مستوى الأفراد العاديين، والأبطال الخارقين، والحضارات العظيمة، والعوالم التي نظن أنها خالدة لكنها تتلاشى وتذوب في العدم بين أوان وآخر.

لكن فيراري لا يعتمد على الأسلوب الرمزي فحسب، فثمة فكاهة، وسخرية سوداء، وكثير من المفاجآت التي تضع القارئ في دائرة السحر والدهشة والذهول. هل تذكرنا رائعة فيراري بـ«مائة عام من العزلة» لماركيز وبواقعيته السحرية التي أدهشت القراء في مختلف أرجاء العالم، أم تحيلنا إلى رواية البلجيكي إروين مورتيير «بينما كان الأرباب نائمين»، أم أنها نسيج وحدها؟ لا نشك جميعا بأن «الأسد هو مجموعة خراف مهصورة» وأن أي عمل أدبي لا بد أن يحمل أصداء معينة من أعمال سابقة، ولكن الروائي المبدع هو الذي يتحفنا برؤاه الجديدة، ومقارباته المغايرة التي تفاجئنا جميعا، وتهزنا من الأعماق. و«موعظة عن سقوط روما» هي واحدة من تلك الروايات الصادمة التي تفرك الصدأ المتكلس في الأرواح والأذهان معا، وتقول بشجاعة نادرة: «إن هذا العالم سيئ، ومليء بالنكبات، وآيل للسقوط والانهيار، ولا يستحق أن نذرف الدموع على نهايته». ترى، أين نضع المساعي البشرية الحثيثة إذا كانت الأيام والأشهر والفصول متشابهة ورتيبة وأن لا جديد تحت الشمس؟

* البنية الروائية

* تقوم هذه الرواية على هيكل معماري محدد ينتظم في 3 قصص رئيسة تتشظى الأولى والثانية إلى قصص فرعية متعددة تؤثث متن النص الروائي برمته، وتحتضن أحداثه الكثيرة، وتضم حركة شخصياته المتنوعة. أما القصة الثالثة والأخيرة فهي التي منحت الرواية عنوانها، وكشفت للقارئ معانيها الفكرية العميقة.

تشكل الحانة بؤرة مثالية في هذه الرواية التي تدور أحداثها في قرية كورسيكية رتيبة حيث يتخلى الصديقان ماتيو وليبرو عن دراستهما للفلسفة في باريس ليديرا حانة في مسقط رأسيهما في كورسيكا، الجزيرة الفرنسية التي ارتفعت فيها نسبة العنف، قياسا لبلدان القارة الأوروبية، بعد عام 2011، الأمر الذي دفع أبناءها للانخراط في صفوف قوات «الإمبراطورية» الفرنسية المهيمنة على أجزاء واسعة من أراضي القارة السمراء. وقد دعمهما مارسيل، جد ماتيو، ماديا حيث استقدما نادلات جذابات ومثيرات منحن الحانة هوية مغايرة لم يألفها أهل القرية من قبل. وإذا كان مشروب الباستيس هو نفسه في كل مكان من كورسيكا فإن الموسيقى والصخب والعنف واللهو والجنس والفساد والعبث هو الذي كان يستقطب الزبائن من مسافة 40 كلم من القرى المجاورة التي وجدت ضالتها في هذا المكان الذي انبثق وتشيد على أنقاض عالم قديم ربما لم يتذكر الآخرون منه سوى الاختفاء الغامض للسيدة حياة التي أصبحت أثرا بعد عين. وقد تكون الحانة بهيأتها الجديدة التي صنعها الصديقان ماتيو وليبيرو هي أفضل عالم ممكن، لكن هذا العالم الجديد ليس سرمديا وسوف يعيش لدورة زمنية محددة ثم ينهار مثلما تنهار العوالم والإمبراطوريات والمدن المبثوثة في مختلف أرجاء العالم. إنها رواية قدرية بامتياز، وإن المصير المحتوم لا يمكن لأحد أن يغيره.

تتمحور القصة الثانية على شخصية مارسيل أنطونيتي الذي كان غائبا في الصورة التي تم التقاطها عام 1918 ولكن عودة والده في 1919 والذي كان سجينا في منطقة الأردين في بداية الحرب سيكون السبب في ولادة مارسيل، الطفل العليل الذي تأكل القرحة أمعاءه ويتقيأ دما وهو ذاهب في طريقه إلى المدرسة. وسوف تتشظى هذه القصة إلى قصص فرعية تعمق مسار السرد سواء في كورسيكا وباريس أو في المستعمرات الفرنسية في القارة الأفريقية. وسوف يتزوج مارسيل من فتاة شابة عمرها 17 سنة يختارها له شقيقه الأكبر جان - با تيست وتنجب له ولدا يسميه جاك، وسوف يبعثه إلى أخته جين - ماري كي تربيه بعيدا عن الحشرات الأفريقية، غير أن هذا الصبي سيرتبط حينما يكبر بكلودي ويمارس معها العشق الممنوع.

تنطوي القصة الثانية على فكرة محورية مفادها سقوط الإمبراطورية الفرنسية في القارة الأفريقية تحديدا وحتمية هلاكها، وهذا الدمار يذكرنا بسقوط روما ونهبها وفنائها، فالرب، في خاتمة المطاف، لم يعدنا إلا بالموت والبعث، فلقد استأثر الآلهة بالخلود، وكان الموت من نصيب البشر، والفناء من حصة العالم ومدنه وحضاراته المتعاقبة التي تنهض من موتها وتتجدد مثل طائر الفينيق.

أما القصة الثالثة وهي الأقصر والأكثف على الإطلاق فهي «موعظة عن سقوط روما» التي ألقاها القديس أوغسطين في ديسمبر (كانون الأول) عام 410م عن سقوط روما الذي يشكل معادلا موضوعيا لسقوط الإمبراطورية الفرنسية. «فالعوالم تمر من الظلمات إلى الظلمات عالما بعد آخر. ومهما كانت روما مجيدة وعظيمة فإنها تنتمي إلى العالم ويجب أن تهلك معه». وهذا الأمر ينسحب إلى سقوط الحانة وانهيارها، لكن ذلك لا يمنع الحانة من أن تنهض من رمادها وتجدد نفسها على أيدي مجموعة أخرى من الحالمين الذين قد يحولون هذا المكان المنسي إلى عالم أفضل إذا لم تقدم لهما الحياة أية إجابات رصينة عن أسئلتهما الوجودية المؤرقة، فما زال الحاضر ينبثق من العدم ويعود إليه.

لا بد من الإشارة في خاتمة المطاف إلى أن جيروم فيراري استطاع أن يطوع الأفكار الفلسفية في نصه الروائي وأن يذوب الشذرات التاريخية التي التمعت هنا وهناك ضمن المسارات السردية التي تعددت وتنوعت في رواية «موعظة عن سقوط روما»، التي تعد علامة فارقة من علامات الرواية في العصر الحديث. كما يجب التنويه بسلاسة الترجمة وعذوبتها، ولا غرابة في ذلك، فلقد قضى الروائي والمترجم شاكر نوري 27 سنة في باريس تشبع خلالها بروح اللغة الفرنسية التي تؤهله لأن يكون أمينا في ترجمته لهذا النص الأدبي المدهش.