نجوى النجار تستعين بمصري وجزائرية لفيلمها الفلسطيني

السينما الصامتة الحديثة تستقبل فيلما جديدا

مشهد من «عيون الحرامية» - وراء النافذة: «باب الوداع»
TT

«عيون الحرامية»، الفيلم المقدم باسم فلسطين في ترشيحات أوسكار أفضل فيلم أجنبي، هو أحد هذه الأفلام التي أقبل عليها الحضور بكثافة كبيرة. بعض هذا الإقبال مفاده وجود الممثل المصري خالد أبو النجا في بطولته وما يعنيه ذلك لجمهوره الشبابي الكبير. المخرجة الفلسطينية استقدمته إلى فلسطين المحتلة حيث صورت عملها الثاني بعد «المر والرمان» (2008). وهو، إنتاجيا، تذكرة المخرجة الذكية إلى رقعة جماهيرية أوسع إذا ما استطاعت، عبر بطلها إيجاد منفذ لتوزيع الفيلم في مصر أو في سواها من العواصم العربية.

إلى جانبه، جلبت أيضا المغنية الجزائرية سعاد ماسي التي، كما تردد هنا، لم يسبق لها الوقوف أمام الكاميرا من قبل. بذلك، يوعز ذلك بأهمية لقاء المواهب ذات المشارب المختلفة في أعمال سينمائية تفرض على الممثل تغيير لهجته والاندماج في ثقافة مغايرة مهما كانت قريبة. هذا التحدي مزدوج الوضع، فمن ناحية هو تحد على الممثل القيام به من دون تحفظات، ومن ناحية أخرى هو تحد من قبل صانعي الفيلم لإقناع المشاهد بأن هذا اللجوء إلى ممثل ليس من أهل البلد له ما يؤهله ويفرضه.

في «عيون الحرامية» تنجز المخرجة نسيجا جميلا ما بين الفيلم وبطليه وبينهما معا. هو سباك وخبير مواسير يصل إلى نابلس باحثا عن ابنته الصغيرة نور. في مشاهد استرجاعية نجده دخل الاعتقال الإسرائيلي بسبب نشاطاته المناوئة للاحتلال. حين خروجه ينتقل من رام الله إلى نابلس ليجتمع مع ماضيه. هناك يجد عملا لدى فلسطيني محترم ومحبوب ونافذ في نابلس يرسله في مهام إصلاح مواسير المياه في أنحاء متفرقة. هذا الرجل النافذ لديه مصنع صغير للخياطة وفيه أرملة شابة يريد الزواج منها. لا يتعاطى بطلنا مع هذا الوضع العاطفي ولا يدور الفيلم حول دخوله في صلب رغبة الرجل الآخر، ولو أن النظرات بينه وبين المرأة تكشف عن ود ينفذ من خلال العوائق.

ما يجذب بطل الفيلم إلى المكان هو أن لهذه الأرملة فتاة تبنتها، وهو يعتقد أن هذه الفتاة ابنته. ليس لديه دليل ولن يستطع المشاهد، حتى مع نهاية الفيلم، التيقن من أنها ابنته أم لا؟ هذا السباك سيبقى وضعا حائرا في وضع أكبر لا يقل حيرة ويلف المجتمع بأسره وتتدخل فيه عوامل الاحتلال وظروفه خصوصا عندما تكشف المخرجة، في الوقت المناسب، عن أن الرجل الذي يعمل بطل الفيلم لحسابه لديه علاقات مستترة لتهريب الماء إلى المستوطنات الإسرائيلية حارما الفلسطينيين منها.

مشهدان يقفزان بفيلم آخر إلى البال. الأول، دخول بطل الفيلم مشغل الخياطة بينما تلقي إحدى العاملات نكتة مفضوحة من دون أن تعلم أن هناك رجلا دخل الغرفة خلفها. والثاني، عندما يذهب هذا الشخص إلى الريف ليكتشف أن هناك مواسير مياه منصوبة لسرقة المياه من المواطنين إلى المستوطنين. كلاهما يذكر بفيلم «تشايناتاون» لرومان بولانسكي، ليس كل الفيلم بل في مشهدين مشابهين. على ذلك لدى المخرجة حبكة جيدة تنتقل فيها من خيط لآخر من دون مشكلات تكثيفية تمنع وصول الأساسيات. وكما في الفيلم السابق لها، فإن «عيون الحرامية» يأتي ليفتح نافذة جديدة على موضوع غير مطروق فلسطينيا إلا في أضيق النطق، وهو أن هناك حياة عادية ملؤها الظروف العاطفية للفلسطينيين وتحكم تلك العاطفة في اتجاهات النفس البشرية وظروفها. في طيات ذلك، هناك نافذة أخرى على مشهد أخذ يزداد حضورا وهو البيئة المسيحية داخل فلسطين. هذا التيار بازدياد مبرر كون المخرجون المتعاملون مع هذه البيئة مسيحيين، من ميشيل خليفي وإيليا سليمان وسهى عراف، صاحبة «فيلا توما» الذي تم تقديمه هذا العام في مهرجان فينسيا، وكانت نجوى نجار أمته في فيلمها السابق «المر والرمان» وتعود إليه اليوم. لكن اختلافها عن الآخرين في هذا المجال هو أن اهتمامها بهذا الجانب ليس كل ما يشغلها. في الواقع تقدم بانوراما شاملة لحياة متعددة البيئات ولذا، سريعا ما سينزوي الاهتمام الديني بعيدا لتبقى الدراما الاجتماعية التي تبحث في هذا الرجل الذي فقد ماضيه ومهدد بأن يفقد مستقبله المتمثل بمن يعتقد أنها ابنته. لا يعني ذلك أن الفيلم خال من المشكلات. هناك ذلك النوع من الإخراج الذي يريد فرض اختياراته من المفارقات. مقهى فيه طاولة بلياردو لا يلعب عليها أحد سوى البطل. مشاهد استرجاعية (فلاش باك) قليل منها مبرر (وكان يمكن الاستغناء عنه) والكثير منها لا يضيف بل يأخذ من السياق. إخراج لا يفلت من الرغبة في التوجه إلى فئات كثيرة من المشاهدين سعيا وراء نجاح ما من كل فئة. الفيلم بذلك يتماوج أكثر من مرة بين الهادف والمسلي، وبين العاطفي واللغزي وتتمنى لو أن التركيز تم على ناحية دون أخرى.

* «باب الوداع» يشارك «عيون الحرامية» في المسابقة الدولية كذلك حال الفيلم المصري لكريم حنفي الآتي من خلفية هاوية والذي يقدم هنا فيلما يجمع بين حس الهاوي والرغبة في خلق أسلوب احترافي خاص به.

«باب الوداع» فيلم صامت في موجة من الأفلام الحديثة الصامتة توزعت في أركان الأرض في السنوات الثماني الأخيرة. أمها «الفنان» (فرنسي) وعززها «سنو وايت» (الإسباني) وشهدنا منها في هذا العام فيلما من الهند «تشغيل الحب» ومن جورجيا «جزيرة الذرة» ومن روسيا «تجربة» ومن يبحث سيجد أفلاما أخرى.

في مصر، قام أحمد عبد الله في العام الماضي، بتقديم فيلمه شبه الصامت «فرش وغطا» والآن ها هو كريم حفني، في عمله الروائي الطويل الأول، يقدم عملا صامتا. طبعا لا يعني الصمت في كل هذه الأعمال الصمت ذاته في مطلع القرن الماضي. ذاك كان فرضا لا بد منه وكان شاملا إذ افتقد أيضا أصوات المؤثرات (إلا فيما عدا ما أضيف له بعد سنوات). الصمت في أفلام اليوم هو عن الحوار المباشر بين شخصين (أو عدة أشخاص) لكن ذلك لا يتضمن التعليق أو الأصوات الطبيعية أو المركبة الخارجة عن فعل بشري.

لكن «باب الوداع» يذهب في طريق منفرد ضمن هذه الموجة. إنه تشكيلات فنية مثيرة جدا للاهتمام، مصورة (من قبل زكي عاطف) على نحو محمل بالإيحاءات والجماليات، وبسرد يميل إلى البطء، خصوصا في ثلاثة أرباع الساعة الأولى (من ساعة و5 دقائق). ربع الساعة الأخيرة يتسارع الإيقاع قليلا بسبب تقصير مدى عرض اللقطات الطويلة على الشاشة. عوض مشهد يأخذ 8 دقائق، هناك اكتفاء بدقيقة أو دقيقتين أحيانا.

إنه عن أم وابنها. ولا بد هنا من الرجوع إلى الملخص الذي وفره المخرج بنفسه: الأم لا تعرف الابن والابن لا يعرف الأم. لن يعرف الابن الأم إلا بموتها ولن تعرف الأم الابن إلا بموته. وضع هذا التلخيص على الشاشة ليس سهلا. كلاهما معا قبل أن ينفصلا. هي في غرفتها تسرح شعرها وتستمع إلى القرآن الكريم تارة أو إلى أغاني الأربعينات لمحمد عبد الوهاب وسواه تارة أخرى، وهو في غرفته صغيرا ثم كبيرا ينظر إلى المطر المنهمر.

الفكرة هي أن كل منهما سجين نفسه كما هو سجين هذا البيت. لا يقدم الفيلم تفسيرا حول سبب هذا اللجوء إلى حبس الذات هكذا. لكن إذا ما كانت الأم تعايش الماضي وصور الراحلين من أحبابها، فإن الابن يعايش صورة الأم ويبدو كما لو أنه وصل، وقد أصبح شابا، إلى نهاية الطريق.

* أم وابن هناك فيلم رائع من ألكسندر سوخوروف عنوانه «أم وابن» حققه سنة 1997 (في مدة زمنية مشابهة لم تزد على 73 دقيقة) حول ذلك الابن الشاب الذي يعنى بوالدته المريضة التي تسكن في كوخ قرب النهر. يحملها إليه ويجلسها بقربه ثم يحملها بعد حين إلى فراشها حيث تموت عليه. هناك أجواء مشابهة من دون أن تكون استنساخية من حيث إن الفيلم المذكور هو صامت أيضا وحركته بطيئة وأجواؤه ملبدة بضباب النفس. لكن ما يجعل من فيلم سوخوروف حالة فنية أكثر اكتمالا هو أن المشاهد لا يحتار فيما يراه. الدافع واضح والباطن ظاهر والحالة النفسية والعاطفية معبر عنها باحتكاك الشخصيتين في زمن واحد.

طبعا هي حرية المخرج في تقديم أزمنته وأمكنته بالطريقة التي يختارها وهذا منطبق تماما على المخرج كريم حنفي في فيلمه الأول هذا. لكن المشاهد الذي لن يستطع سبر غور الفيلم سيصطدم بحقيقة أنه لن يجد منفذا ليدخل الفيلم منه. بالنسبة لكثيرين هو مجرد مشاهد جميلة ذات حركة رتيبة والقليل منها موصول بالآخر.

* سينما عن سينما في قسم «أفلام عن السينما» تم جمع عدد مهم من الأفلام التي تتناول، تسجيليا أو روائيا، السينما ذاتها. من الفيلم التسجيلي «ألتمن» عن المخرج الأميركي الراحل روبرت ألتمن، إلى «كارميتا» المكسيكي عن ممثلة كورية تعيش في المكسيك ومن الفيلم البريطاني «الحب هو كل شيء» (حيث 100 عام من الأفلام الرومانسية ممتزجة في هذا العمل الوثائقي) مرورا بـ5 أفلام أخرى، يستطيع المشاهد الانتماء إلى جو آسر وتاريخ جاذب يكتشف فيه لماذا يحب السينما أصلا.

أحد هذه الأفلام هو المصري «زي عود الكبريت» للمخرج والممثل والموسيقي الراحل حسين الإمام ابن المخرج المعروف على نطاق أوسع حسن الإمام الذي كان رحل عن الدنيا بعد أن منح السينما المصرية عشرات الأفلام الميلودرامية الناجحة.

العنوان، «زي عود الكبريت» الذي يردده حسين الإمام في الفيلم، هو استخدام لتلك العبارة التي قالها يوسف وهبي في أحد أفلامه الأولى «شرف البنت زي عود الكبريت ما يولعش إلا مرة واحدة». على نحو مستتر، احتلت مسألة عذرية الفتيات في الأفلام العاطفية المصرية مكانة كبيرة. لمن يبحث، هناك مئات الأفلام المصرية القديمة التي تدور حول تلك العذرية، المخاوف التي تنبع منها، المخاطر التي تهددها، الثأر والانتقام. الخديعة والغرام والتقاليد المتمسكة، أحيانا لذر الرماد في العيون، بأن لب العلاقات العاطفية والاجتماعية الصحيحة هو توأمة الحب والعذرية.

«زي عود الكبريت» يلعب على هذه الناحية. ما يفعله حسين الإمام هو تصوير شخص من خريجي السجون (يقوم به هو نفسه) احتال على رفيق له واستولى على ثروته وعندما خرج من السجن استخرج الثروة واشترى بها ملهى ليليا استغله ساترا لمهنة أخرى هي التجارة بالمخدرات (الحشيش فقط). الآن يريد أن يعرف من هو رئيس العصابة الذي يورد له المخدرات وفي سبيل ذلك يرصد عددا من المتهمين.

هؤلاء ليسوا ممثلين من اليوم بل هم من الراحلين: حسين رياض، سراج منير، فريد شوقي، محمود المليجي وسواهم، بالإضافة إلى بعض الحاضرين وفي مقدمتهم فاتن حمامة. كل هؤلاء مشتركون عبر مشاهد مقتطعة من أفلام سابقة لهم. بذلك الجزء الحي هو ما صوره المخرج والجزء التسجيلي المستعان به هو مشاهد من الأفلام وما قام به هو توزيع وتركيب المشاهد بعضها مع بعض بحيث يبدو كما لو أن حسين الإمام يعيش في ماضي السينما المصرية والحكاية التي ابتدعها تتعامل والمشاهد المختارة من الأفلام.

إنه تواصل يتم بأسلوب تقني بدهي، لكن الأهم هو أنه لا ينتج فيلما ذا لون مشبع. يبقى الفيلم، ومحاولته، منحازا إلى الفكرة ومكتفيا بالتنفيذ. ليس هناك من تعليق اجتماعي، ولا من حرارة عاطفية، ولا من مشاهد ساخرة. مشاهدته مع الجمهور المصري يساعد كثيرا في معرفة رد الفعل على النكات التي ألقيت فيه: برود تام. على ذلك، المحاولة مختلفة ولو أن الفكرة ليست بالضرورة جديدة. الفيلم يمر عبر أفلام الأمس ليثير من حولها الشجن لكنه يكثر من استخدام الحكاية الدخيلة وفي منوال يفرض الحكاية على الخلفية مما يجعل الفيلم قابلا لأن يتبدد سريعا.