دراما قضائية ـ إعلامية تهز الطبقة السياسية الفرنسية

أبطالها رئيسا جمهورية وحكومة وأمين عام قصر الرئاسة

رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس (يمين) يتحدث إلى الأمين العام لقصر الرئاسة جان بيار جوييه لال الاجتماع الحكومي في الإليزيه أمس (أ.ف.ب)
TT

تدور في باريس دراما سياسية من الطراز الأول يختلط فيها السياسي بالقضائي، وتتضارب الطموحات الشخصية ويختلط الحابل بالنابل. أبطال هذه المأساة ينتمون إلى اليمين واليسار، وأسماؤهم من الصف الأول: رئيس الجمهورية السابق نيكولا ساركوزي، رئيس حكومته فرنسوا فيون، وأمين عام الرئاسة جان بيار جوييه، صديق الثاني وأقرب معاوني رئيس الجمهورية الحالي فرنسوا هولاند بعد أن كان وزيرا في عهد الرئيس السابق.

المأساة تدور على خلفية التنافس على تزعم اليمين الكلاسيكي خصوصا رئاسة الجمهورية، بين طامح للعودة إليها بعد أن خسر معركتها في ربيع عام 2012 (ساركوزي) وآخر يحلم بها ويريد أن يزيح الأول من طريقه خصوصا أن الرئيس السابق يتأهب للإمساك مجددا بحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية بمناسبة انتخاباته الداخلية نهاية الشهر الحالي، وهو يجوب فرنسا طولا وعرضا لهذه الغاية. أما سبب الشراسة في التنافس فمرده إلى أن المرشح الذي يحظى بدعم اليمين سيكون بلا شك رئيسا للجمهورية الفرنسية القادمة باعتبار أن المرشح اليساري الاشتراكي، مهما تكن هويته، يبدو عديم الحظ بالفوز بسبب تراجع شعبية هولاند وغياب النتائج الاقتصادية والمالية التي وعد بها.

بداية الدراما انطلقت عندما كشف صحافيان في جريدة «لوموند» المستقلة أن أمين عام الإليزيه أخبرهما بأن فيون جاءه الصيف الماضي (24 يونيو/ حزيران، الماضي) وطلب منه خلال غداء في مطعم قريب من الإليزيه تحريكا قضائيا لملاحقة ساركوزي الذي لم يحترم القوانين الخاصة بميزانية الانتخابات الرئاسية التي تخطاها بأشواط انتخاب. كما ندد فيون الذي كان رئيس حكومة ساركوزي طيلة خمس سنوات بقيام الحزب بتسديد غرامة من نحو 400 ألف يورو كان يفترض بالمرشح ساركوزي أن يسددها.

سارع أمين عام الرئاسة إلى تكذيب خبر الصحافيين. لكن عندما أكد هذان الرجلان اللذان يتمتعان باحترام أهل المهنة أنهما يملكان تسجيلا صوتيا للمقابلة مع جان بيار جوييه، اضطر هذا الأخير للاعتراف بصحة الخبر. لكن فيون الذي يقامر بمستقبله السياسي وهو الذي أعلن منذ أشهر رغبته في الترشح للرئاسة، نفى بقوة ما قاله جوييه، واتهمه رغم الصداقة التي تجمعهما بـ«الكذب»، وأعلن عزمه على ملاحقة الصحافيين أمام القضاء، وطالب بأن يستمع محاموه للشريط المسجل.

أما ساركوزي، الذي يجر وراءه مجموعة واسعة من الفضائح التي ورد اسمه فيها، فقد حرص على الظهور بمظهر الضحية. لكنه وجه سهامه مباشرة نحو الحكم الاشتراكي الذي اتهمه بتسخير القضاء وتسييره لأغراض سياسية. فـ«بطل» القصة (جان بيار جوييه) هو المساعد الأول لهولاند ولا يمكن لعاقل أن يتصور لحظة واحدة أنه قبل الالتقاء برئيس الحكومة السابق من غير إعلام رئيسه. وفي أي حال، أخبر جوييه الصحافيين بأنه أطلع هولاند على مضمون لقائه مع فيون، وطلبه تحريك القضاء وقطع الطريق على عودة ساركوزي إلى الباحة السياسية. بيد أن الأخير طلب منه «عدم التدخل» حرصا على نزاهة القضاء واستقلاليته.

وأمس، أعلن الناطق باسم الحكومة الوزير ستيفان لوفول، إثر اجتماع لمجلس الوزراء في قصر الرئاسة، أن «جان بيار جوييه هو أمين عام قصر الإليزيه وسيبقى في مكانه»، قاطعا بذلك الطريق على الأصوات المرتفعة في معسكر اليمين والداعية لاستقالته من منصبه. وكان جوييه معروفا بجديته وبكفاءته، إذ إنه تنقل في مناصب رفيعة وترك وراءه سمعة جيدة، وهو معروف عنه اتساع صداقاته يمينا ويسارا. والسؤال المطروح اليوم هو: هل ارتكب هفوة أم خطأ مهنيا أم أنه أبدى الكثير من السذاجة في الكشف عن مسائل مثيرة وهو يعلم أن حديثه مسجل؟

بعض اليمين ذهب إلى تخيل مخطط «جهنمي» قوامه أن جوييه استدرج فيون ثم كشف عن محادثة تمت بحضور طرف ثالث هو مدير مكتب رئيس الحكومة السابق من أجل تأجيج النزاعات داخل صفوف اليمين وإلهاء الفرنسيين عن مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية وربما إعاقة عودة ساركوزي إلى المسرح السياسي. وارتفعت بعض الأصوات لتطلب استقالته موحية بأن ما حصل هو أكبر من اعتباره «خطأ» لا بل إنه «فضيحة دولة». وبالمقابل، فإن الكثير من علامات الاستفهام رسمت حول فيون وحول توسله اللجوء إلى السلطة الاشتراكية لنسف حظوظ ساركوزي السياسية. ورغم أن الأخير ينفي بقوة ما نقل عنه، فإنه على ما يبدو سيكون الخاسر الأكبر إذ إن القاعدة الحزبية واليمين بشكل عام لن يسامح لجوءه إلى السلطة لضرب «رفيق» يميني مثله.

وفي أي حال، ومهما كانت تتمات هذا المسلسل، فإن الرابح الحقيقي هو مارين لوبن، زعيمة الجبهة الوطنية، التي لا تفتأ وتردد أن اليمين واليسار حالهما واحد، وكلاهما نهشته الفضائح وأغابه عن الوعي ركوضه وراء السلطة. ولذا، فإنها «البديل» الحقيقي الذي تضعه استطلاعات الرأي العام في مقدمة المرشحين لرئاسة الجمهورية التي يحل موعدها في ربيع عام 2017.